الاستعمار والمجاعة في أفريقيا



تقديم ورقن موقع سيادة :

يتحدث هذا المقتطف “الجفاف في الساحل الإفريقي”  من كتاب “صناعة الجوع (خرافة الندرة)”، عن الجفاف الذي ضرب بلدان “الساحل الأفريقي”[*] بين سنوات 1969- 1973. ورغم تقادمه إلا أن تحليله لا زال راهنيا وحججه على أن سبب المجاعة ليست طبيعية محضة، بل تعود إلى نمط الزراعة الذي أرساه الاستعمار، تفقأ العيون.

يرفض مؤلفا الكتاب [فرتنسيس مور لابيه وجوزيف كولينز]، الفكرة المُضلٍّلَة على أن سبب أزمة الغذاء العالمية هي في ارتفاع عدد السكان (خصوصا الفقراء) وحدود الطبيعة التي جرى تجاوزها. ويعزوان أسباب هذه الأزمة إلى الهياكل الاقتصادية والاجتماعية التي جرى إرساؤها في العالم منذ بزوغ الرأسمالية قبل خمسة قرون.

وبالمثل يرفضان أن يكون الجفاف والتصحر سبب المجاعات التي تضرب- بشكل دوري- بلدان الساحل الأفريقي، وهي الفكرة التي أنهيا بها هذا الفصل من كتاب قيم، يستحق قراءته على ضوء تواتر أزمات غذاء عالمية: “هكذا اتضح لنا أن الجفاف لا يمكن أن يُعدَّ سبب المجاعة، فالجفاف ظاهرة طبيعية، والمجاعة ظاهرة إنسانية، وأية علاقة بين الاثنين على وجه الدقة من خلال النظام الاقتصادي والسياسي لمجتمع يمكنه إما أن يقلل العواقبَ البشرية للجفاف إلى الحد الأدنى أو يضاعفها”.

“الجفاف في الساحل الإفريقي”

يفترض الكثيرون عن خطأ، أن جفاف الساحل الأفريقي الذي بدأ عام 1969 كان هو الجفاف الساحلي الأفريقي (بألف ولام التعريف). لكن علماء المناخ يعتبرون الجفاف جزءً متكاملا، من مناخ المنطقة. ويعتقد معظم سكان الساحل الإفريقي الأكبر سنا أن سنوات الجفاف في فترة 1910- 1913 كانت أشد قسوة من أعوام الجفاف الحديثة، التي لقيت دعاية واسعة، وتؤكد الأرقام ذلك. فلم تكن مناسيب المطر والبحيرات والأنهار منخفضة خلال سنوات 1969- 1973 بقدر ما كانت خلال الجفاف السابق. وبدراسة التأخر في نمو حلقات الأشجار اكتشف العلماء حدوث موجات جفاف قاسية مرات عديدة على مدى القرون الثلاثة الماضية وفترات جافة عديدة من وقت لآخر. قد اختتمت أحدث دراسة نعرفها بالقول فلا يوجد دليل على أي ميل متصل للارتفاع أو الانخفاض في منسوب المطر). وهكذا فإن زحف الصحراء لا يمكن عزوه إلى أي تغيره مناخي طويل المدى.

وعلى أية حال، ليس زحف الصحراء عملية ذات اتجاه واحد. فالصحاري يمكن استصلاحها- وبدون نفقات مالية ضخمة- إذا استثمرت احتياطات ضخمة من قوة العمل، إذا استُثمرت احتياطيات ضخمة من قوة العمل. وعلى سبيل المثال فإن الجزائر اليوم هي مركز برنامج ضخم وناجح لإعادة غرس الغابات. والهدف خلال الأعوام العشرين التالية هو غرس ستة ملايين شجرة في حزام طوله ألف ميل بامتداد الحافة الشمالية للصحراء الأفريقية. وفي الفترة من 1965 إلى 1970 تم استصلاح 160 فدانا في قرية يوسعدو الصحراوية بالجزائر، عن طريق زراعة أشجار السنط والكافور. ووفرت هذه الأشجار الحماية من العواصف الرملية وزادت من الرطوبة السطحية للتربة. وطبقا لأحد التقارير، سرعان ما نبتت الأعشاب والشجيرات وبعدها الفواكه الحمضية، والزيتون والتين، والرمان، والحبوب، والطماطم، والبطاطس، والفاصولياء، والبقول، والبصل.

وعبر القرون، طور صغار الزراع في الساحل الأفريقي فهما عميقا لبيئتهم. فعرفوا ضرورة ترك الأرض للراحة تمتد إلى عشرين عاما وكانوا يزرعون تشكيلة واسعة من المحاصيل، كل منها يلائم بيئة مصغرة مختلفة لكنها مع تتيح تكاملا غذائيا. وعادة ما كان الرعاة والزراع يقيمون علاقات نفع متبادل. فيقدم الزراع للرعاة أرضا للرعي في موسم الجفاف وغلالا مقابل اللبن، والروث للحقول والحمير للحرث.

كانت مالي الواقعة في الساحل الإفريقي تعرف في ما مضى بأنها سلة غذاء أفريقيا. فقد كان يمكن الاعتماد عليها دائما في تجارة الغلال في أوقات احتياج جاراتها. وكانت العادة الساحلية قبل الاستعمار هي إقامة مخازن غلال صغيرة في المزارع والقرى لتخزين الشوفان لعمل الدقيق، وفي بعض الأحيان من أجل استهلاك سنوات أخرى. وقد لاحظت أحدى دراسات الأمم المتحدة التي تعرض فكرة أن الساحل الأفريقي مزدحم بالسكان، أن عادات التخزين التقليدية لو تم اتباعها فإن طاقة استيعاب الأرض من البشر والحيوانات، تكون هي طاقتها في السنوات الوسطية وليس طاقتها في أسوء السنوات.

ماذا حدث لنظام تطور عبر قرون لمواجهة الجفاف الدوري؟

أولا، وحتى قبل الغزو الاستعماري في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت هذه الحضارات قد تعرضت بالفعل لتدمير شديد بفعل قرنين من التفريغ السكاني القسري حيث كان ملايين من أكثر أفرادها شبابا وقوة، يُؤخَذون كعبيد إلى العالم الجديد. ثم جاء الفرنسيون وجاءت سنوات من القتال الدامي. وحين أقام الفرنسيون وجودا دائما أخذوا يبحثون عن وسائل يجعلون بها رعيتهم الجديدة تدفع التكاليف الإدارية للاحتلال. وكما يكتب ثونتون كلارك بصورة لاذعة عن النيجر في تلك الفترة: “كان الشعب النيجيري مكتفيا بذاته أما الإدارة الاستعمارية فلم تكن كذلك”. وكان حل الفرنسيين لهذه المشكلة التي هي من صنعهم هو إجبار الفلاحين على زراعة المحاصيل للتصدير، وخصوصا الفول السوداني والقطن. كان القطن لازما لمصانع النسيج الفرنسية حيث تسيطر بريطانيا على معظم مصادره. أما الفل السوداني فكان لتوفير بديل رخيص لزيت الجوز الشائع الاستخدام في فرنسا في ذلك الحين. وبينما كانت المحاصيل المتكاملة مثل الشوفان والبقول تُزرع سابقا في دورة تبادلية زُرِع محصول إثر الآخر من الفول السوداني أو القطن حتى أُرهِقت التربة. وللحفاظ على صادرات القطن للفرنسيين، مع اعتبار الانخفاض الناتج في محصوله أُجبِر الفلاحون على توسيع المساحة المزروعة قطنا، بتخفيض زراعة الشوفان والذرة الصفراء جزئيا. وقبل أن يزيد الفرنسيون المحاصيل النقدية، كان الزراع النيجيريون يزرعون فصائل عديدة من الذرة الصفراء، تتطلب كل منها كمية مختلفة من المطر. وهكذا كان من المحتمل أن تبقى الفصائل حتى حين تكون الأمطار قليلة. لكن حين أصبح على الزراع أن يُضحوا بالكثير من الرقعة الزراعية الغذائية لصالح الفول السوداني والقطن، تحولوا إلى فصيلة واحدة من الذرة الصفراء- تلك التي تعطي أكبر المحصول. إلا أن هذه الفصيلة تتطلب أعلى درجة من الرطوبة، وهكذا زاد الزراع من خطر فشل كل محصولهم من الذرة الصفراء.

وليست أساليب الاستعمار وتأثيرها المدمر على الأرض وبشرها مجرد حقائق من الماضي. إذ بينما حصلت دول الساحل الأفريقي على استقلال شكلي في الستينات كانت الحكومات التالية تفوق الفرنسيين عادة في فرض إنتاج محاصيل التصدير. زيدت الضرائب التي لا يمكن للزراع دفعها إلا بإنتاج محاصيل التصدير. ففي مالي عام 1929، كان الفرنسيون يجبن ضريبة تتطلب من كل بالغ تعدى الخامسة عشرة أن يزرع ما بين خمسة وعشرة كيلوغرامات من القطن لدفعها. وفي عام 1960، آخر أعوام الحكم الفرنسي ارتفعت الضريبة إلى ما يعادل أربعين كيلوغراما. وفي عام 1970، خلال الجفاف أجبرت الحكومة التالية كل فلاح بالغ أن يجني ما لا يقل عن ثمانية وأربعين كيلوغراما من القطن لمجرد دفع الضرائب.

إن الضرائب المتزايدة وكذلك أسعار التصدير المتناقصة تجبر الفلاحين على زيادة إنتاج محاصيل التصدير لكن منذ عصور الاستعمار ووصولا إلى السنوات الأخيرة بما في ذلك هذه السنوات، تتحقق هذه الزيادات أساسا بوسائل زراعة مدمرة وقد سبب الحرث العميق لزراعة القطن تآكل مساحات شاسعة. وفي وجود رواسب عضوية أقل للاحتفاظ بالماء، يبدو وكأن المطر قد قل. وتُزرع (وبعبارة أدق “تُستنفَذ”) مساحات أكبر فأكبر ضد قواعد الحكمة التقليدية في الحفاظ على التربة. هذا التوسع في إنتاج محاصيل التصدير يعني أن الأرض التي كان يُسمح لها بالراحة لعدد من السنين وتُسمِّدها قطعان الرعاة مُجبَرة على زراعة لا تكاد تنقطع.

وهكذا تستمر الحلقة المفرغة، فالزراعة المتصلة تستنزف الأرض بسرعة، مما يستلزم توسعا أكبر في محاصيل التصدير على حساب المحاصيل الغذائية وأراضي الرعي. والأسمدة الكيميائية التي زادت ذات حين نواتج بعض محاصيل التصدير، جاعلة التوسع في الزراعة أقل إلحاحا، أصبحت الآن مكلِّفة لدرجة أن الفلاحين يضطرون في النهاية إلى تخصيص أرض أكثر للمحاصيل النقدية. وأكثر من ذلك، ولأن الزراع يزرعون غلالا أقل فليس لديهم سوى القليل أو لا شيء لاستبداله اللبن به مع الرعاة.

ومع إنتاج غلال أقل، يدفع المضاربون الأسعار إلى الارتفاع. عندئذ يضطر الرعاة إلى تربية ماشية أكثر لمجرد الحصول على نفس الكمية من الغلال. ففي جنوب النيجر قبل الحرب العالمية الثانية كانت البقرة الواحدة تساوي 30 جوالا من الشوفان. وقبل جفاف السبعينات [من القرن العشرين] مباشرة أصبحت تساوي جوالا واحدا. والنتيجة كما يمكن أن نتخيل، هي جوع الزراع والرعاة على حد سواء، وموت آلاف الحيوانات جوعا وصحراء زاحفة.

إن من المحرج لمن يلقون اللوم وعلى زحف الصحراء كأسباب للمجاعة في الساحل الإفريقي أن يفسروا الكميات الضخمة من السلع الزراعية التي تُرسَل خارجَ الإقليم، حتى خلال أسوء سنوات الجفاف. فقد كانت السفن التي تجلب غذاء الإغاثة إلى ميناء دكار ترحل محملة بالفول السوداني والقطن والخضراوات واللحم. ومن السلع الزراعية التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات والتي صدرها الساحل الإفريقي خلال الجفاف، ذهب أكثر من %60 إلى المستهلكين في أوروبا وأمريكا الشمالية والباقي إلى مجموعات النخبة في الدول الأفريقية الأخرى. والسيطرة على التسويق- والأرباح- ما زالت حتى الآن في أيدي الشركات الأجنبية الفرنسية أساسا.

وخلال الجفاف زادت صادرات كثيرة من بلدان الساحل الإفريقي بلغ بعضها مستويات قياسية. فقد بلغ إجمالي صادرات الماشية خلال عام 1971، وهو أول أعوام الجفاف الكامل، ما يفوق 200 مليون رطل، بزيادة %41 بالمقارنة مع 1968. وتضاعف الصادر السنوي من لحوم البقر المثلجة أو المجمدة ثلاث مرات بالمقارنة مع سنة نمطية قبل الجفاف. وعلاوة على ذلك، تم تصدير 65 مليون رطل من السمك و32 مليون رطل من الخضراوات من منطقة الساحل الأفريقي المنكوبة بالمجاعة عام 1971 وحده. وخلال سنوات الجفاف 70- 1974 كانت القيمة الإجمالية للصادرات الزراعية من بلدان الساحل الأفريقي- وهي رقم مذهل يبلغ 1.5 مليار دولار- تعادل ثلاثة أضعاف قيمة كل من الحبوب المستوردة إلى الإقليم.

كانت مالي إحدى الدول الأشد تضررا من الجفاف وكانت إحدى الدول الرئيسية التي تتلقى شحنات الغذاء العاجلة. وخلال السنوات الخمس السابقة على الجفاف حدث انخفاض ملحوظ ف المساحة الإجمالية المخصصة لإنتاج الغلال الغذائية. وخلال هذه الفترة ذاتها فاقت المساحة المخصصة للقطن الضِّعْفَ، وبلغت صادرات القطن الخام خلال سنوات الجفاف مستويات قياسية (حوالي 50 مليون رطل أو 10 أرطال لكل رجل)- أي من ثلاث إلى أربع مرات مستويات السنوات السابقة على الجفاف. وتوحي حقيقة أن متوسط محاصيل القطن خلال الجفاف كان أعلى بكثير منه خلال السنوات السابقة على الجفاف بأن القطن كان يُزرع في أفضل الأراضي: تلك الأقل تأثرا بالجفاف.

في عام 1934 كان الفول السوداني يحتل 182 ألف فدان في النيجر. وفي عام 1954 تضاعفت المساحة. وبحلول عام 1961 كانت قد ازدادت خمس مرت. وعشية الجفاف عام 1968، كانت المساحة المزروعة بالفول السوداني تغطي مساحة قياسية مقدارها مليون وثمانين ألف فدان، أي ما يعادل ست مرات مساحة الفول السوداني عام 1934. وكانت الحملات الحكومية والضرائب والمنح من شركات الفول السوداني والتي ترد عند الحصاد، وكذلك الأبحاث المكثفة حول الفصائل الجديدة من الفول السوداني تمثل بعض القوى الرئيسية وراء هذا التوسع غير العادي. وكان التوسع على حساب المناطق في الأحزمة الخضراء والحاسمة على وجه الخصوص في سنوات الجفاف. ولم يفعل اقتطاع الأرض المُرَاحَةِ سوى أن عقَّد استنزاف التربة بسبب زراعة الفول السوداني عاما إثر عام على نفس الأرض. وبدأت زراعة الفول السوداني في الستينيات [من القرن العشرين] تمتد شمالا مغتصبة الأراضي التي يستخدمها الرعاة تقليديا. وجعل هذا الزحف الرعاة وحيواناتهم أكثر عرضة لخطر الجفاف.

وفي السنوات الخمس قبل الجفاف مباشرة وخلاله نفَّذت تشاد برنامجا ضخما (بِسمادٍ تدعمه دول السوق الأوروبية المشتركة) لزيادة إنتاج القطن. وخصص ثلثا مليون فدان من أفضل موارد تشاد القليلة ليس للغذاء بل للقطن. ودفعت هذه الزيادة في إنتاج القطن عبر كل الساحل الأفريقي خبير غذاء فرنسي إلى ملاحظة أنه (إذا كان الناس يموتون جوعا فليس ذلك بسبب الحاجة إلى القطن).

والأهم من مجرد عدد الأفدنة التي تنتج القطن للتصدير في الساحل الأفريقي هي الحكومات التي ضغطت على الزراع وشوهت كل برنامج ممكن لتحبذ الإنتاج من أجل التصدير (الري، والأسمدة، والقروض، وتنمية الأراضي الجديدة، والأبحاث لتطوير الفصائل المقاومة للجفاف، والخدمات المحلية، وتسهيلات التسويف). وكل ذلك تقوم به بمساندة وكالات المعونة الأجنبية. وأحد الاقتراحات الرئيسية الحالية للأمم المتحدة لمساعدة الجوعى في الساحل الإفريقي هو إنشاء طريق عبر دول الساحل يكلف ربع مليار دولار، وهو عمل إنشائي تافه لا يفيد سوى في جلب الإنتاج إلى الموانئ الرئيسية. وبهذه المساندة للصادرات ليس مما يدعو إلى الدهشة أنه حتى قبل الجفاف كان إنتاج الغذاء يتناقص بصورة خطيرة بينما تزدهر محاصيل التصدير.

فلماذا تنشط حكومات الساحل الأفريقي محاصيل التصدير؟ لتكسب العملة الأجنبية. هذه هي الإجابة التي يقدمها الجميع. لكن الكثير من هذه العملة يُستخدَم لتمكين بيروقراطيي الحكومة والعمال المدنيين الميسورين من ممارسة نمط حياة مستورَد- ثلاجات، ومكيفات هواء، وسكر نقي، ومشروبات كحولية، وتبغ، وما شابه بذلك. ففي عام 1974، ذهب نحو %30 من العملة الأجنبية التي كسبتها السنغال لشراء هذه الأصناف فقط، وتمثل صادرات الفول السوداني سنويا ثلث الميزانية القومية للسنغال- لكن %47.2 من الميزانية يُنفَق على رواتب البيروقراطيين الحكوميين. وفيما بين 1961 وأسوء سنوات الجفاف 1971، قامت النيجر وهي دولة تعاني من سوء تغذية ملحوظ ومن متوسط عمر لا يتعدى ثمانية وثلاثين عاما، بمضاعفة إنتاجها من القطن أربع مرات، وبمضاعفة إنتاج الفول السوداني ثلاث مرات. وكسب هذان الصادران معا في عام 1971 نحو 18 مليون دولار. ولكن 20 مليون دولار من العملية الأجنبية استُخدمت لاستيراد الملابس، ويعادل ذلك تسع مرات قيمة تصدير القطن الخام. وذهب مليون دولار لشراء السيارات الخاصة، وما يفوق 4 ملايين دولار للبنزين والإطارات. وخلال ثلاث سنوات فقط، من 1967 إلى 1970، تزايد عدد السيارات الخاصة أكثر من %50، وأغلبها تقودها نخبة العاصمة الضئيلة العدد. وأنفق أكثر من مليون دولار لاستيراد المشروبات الكحولية ومنتجات التبغ. وخلال زيارة للعاصمة نيامي وجدنا مجموعات النخبة المحلية تتسوق من سوبرماركت مليء بأشياء كلها من باريس- وبه حتى أقماع المثلجات من أحد متاجر الشنزليزيه.

وحتى حين يُستخدم جزء من أرباح التصدير في استيراد الغذاء، فإن هذا الغذاء لا يصل إلى الفقراء عموما، أولئك الذين ينتجون عملُهم القطنَ والفول السوداني والماشية، بل تستهلكه الطبقات الميسورة في المناطق الحضرية. وقد تم إنفاق أكثر من نصف ما كسبته السنغال من العملة الصعبة من تصدير الفول السوداني عام 1974 لاستيراد القمح للمطاحن المملوكة للفرنسيين والتي تنتج الدقيق لصناعة خبز فرنسي لسكان المدن.

والشيء الذي يصدم أكثر من تنشيط محاصيل التصدير في وجه إنتاج غذائي متناقص هو حقيقة أن كل دولة في الساحل الأفريقي بالاستثناء المحتمل لموريتانيا الغنية بالثروة التعدينية، أنتجت فعلا ما يكفي من الغلال لإطعام كل سكانها حتى خلال أسوء سنوات الجفاف.

ويجد أغلب الزراع الذين يزرعون المحاصيل النقدية أنفسهم بلا نقود أو احتياطات غذائية كافية لمواجهة احتياجات عائلاتهم ما بين موسم تسويق والموسم التالي. ولكي يحيوا خلال ما يسمونه موسم الجوع وهو شهور العمل الشاق  بوجه خاص قبل الحصاد، فإنهم يضطرون للاقتراض نقدا أو بالشوفان بمعدلات فائدة ربوية من التجار المحليين. ولدى التجار المحليين الغلال لأنهم يشترونها من الزراع خلال موسم الحصاد حين يخفض العرض الوفير الأسعار وحين يضطر الزراع إلى البيع لدفع ديونهم وضرائبهم. وحين زرنا إقليم تنسوبيتنجا بفولتا العليا، وجدنا أنه حتى خلال سنة مطر عادية عام 1976 تضاعف سعر الغلال تقريبا فيما بين وقت الحصاد وبعده بسبعة أشهر. ويمكن للتجار أن يبيعوا الغلال المخزونة خلال موسم الجوع بضعفي أو ثلاثة أضعاف الثمن المدفوع فيها، وكذلك أن يصدروها إلى الأسواق ذات الدخل العالي في البلدان المجاورة. وقد صدمنا أحد موظفي وكالة التنمية الدولية في وغادوغو بفولتا العليا، وهو أمريكي، بتقديره المتحفظ أن تلثي الغلال التي يحصل عليها التجار من الفلاحين سداد لديونهم يُصدَّر إلى ساحل العاج وغانا. في تلك المجتمعات حيث المضاربة بالغذاء عادية، يمكن للإنتاج الكافي أن ينتج عنه ندرةٌ لعديدين- حتى من المنتجين.

وبالنسبة للزراع الذين جعلتهم حلقةُ الديون المفرغة عرضة للأذى، يسبب الجفافُ المجاعةَ بالفعل. ولأنهم ضحايا المنتفعين فإن الزراع لا يستطيعون تحسين نوعية أرضهم وعادة ما يُجبَرون على إرهاق التربة وحتى على رهن أرضهم، لكن من الواضح أن الجوع وما يبدو أنه زحف الصحراء ليسا نتيجة الجفاف بل نتيجة طبقة طفيلية من المرابين والمضاربين خازني الغلال.

إن هناك من يرون في الساحل الأفريقي صومعة غلال ممكنة وليس على الإطلاق أرضا قفرا مهجورة، وهم يشيرون إلى مستودع المياه الجوفية الاستثنائي بالإقليم، وإلى شبكة الأنهار الثلاثة به، بما في ذلك النيجر، الذي يأتي في المرتبة الثانية عشرة لأطول أنهار العالم. وبإمكانية الري هذه وبنعمة الإقليم من الشمس الاستوائية، يقدرون أن بإمكان الساحل الأفريقي أن ينتج من الغلال أكثر مما ينتج الآن ست مرات على الأقل بالإضافة إلى كميات مذهلة من اللحم والخضراوات والفاكهة للأسواق المربحة في أوروبا والشرق الأوسط.

وقد كتب مراسل خاص للايكونوميست (في 6 أكتوبر 1973) متحمسا أن من الممكن تحقيق أرباح كبيرة بسفن مجهزة كمعامل تسمين عائمة تجلب صغارا لماشية من أماكن مثل الساحل إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان. وقدَّر أن هذه “العجول الذهبية) تساوي في الدول الصناعية من 20 إلى 40 مرة ما تساويه في الساحل الأفريقي. وخلال زيارة إلى فولتا العليا مؤخرا وجدنا شركة زراعية تجري تجارب على استخدام البالونات الغازية لرفع الخضراوات والفواكه من القرى النائية إلى مطار واغادوغو حتى يمكن شحنها جويا إلى فرانكفورت.

إن كل من يعرف الساحل الإفريقي يعلم أن بالإمكان إنتاج كميات أكبر بكثير بلا شك. لكن إذا سيطرت مجمعات النخبة الحكومية والشركات المتعددة الجنسية على ذلك الإنتاج فمن غير المحتمل أن تستفيد غالبية السكان.

إن تحليلا للمجاعة يلقي اللوم على زحف الصحراء، لن يدرك أبدا التفاوتات السائدة التي هي بيت البدء. والحلول المقترحة ستكون محدودة، لا مناص، في حدود الجوانب التكنيكية والإدارية (برامج الري، والمكننة الحديثة، وفصائل البذور الجديدة، والاستثمار الأجنبي، وبنوك احتياطي الفلال وما أشبه). ومثل هذا التحليل لا يسمح بتأمل التنظيمات السياسية والاقتصادية التي هي السبب الحقيقي أكثر من تغيرات المطر أو حتى المناخ، لتلك الإنتاجية المنخفضة وذلك الحرمان البشري.

هكذا اتضح لنا أن الجفاف لا يمكن أن يُعدَّ سبب المجاعة، فالجفاف ظاهرة طبيعية، والمجاعة ظاهرة إنسانية، وأية علاقة بين الاثنين على وجه الدقة من خلال النظام الاقتصادي والسياسي لمجتمع يمكنه إما أن يقلل العواقبَ البشرية للجفاف إلى الحد الأدنى أو يضاعفها.


[*] – الجزائر [أقصى الجنوب] والسنغال [شمالها] وموريتانيا [جنوبها] ومالي [وسطها] وبركينافاسو [شمالها] والنيجر ونيجيريا [أقصى شمالها] وجنوب السودان [أقصى شمالها] وتشاد [وسطها] والسودان [وسطها وجنوبها] والرأس الأخضر، وجمهورية أفريقيا الوسطى [أقصى شمالها] وإريتريا [أقصى شمالها] وأيثيوبيا [أقصى شمالها]. [من وكيبيديا].