الاستيلاء على الأراضي في تونس، ظاهرة قابلة للعكس؟


نادرًا ما يجري الحديث عن ظاهرة الاستيلاء على الأراضي في تونس باستعمال هذا التعبير، ربّما لأن الفاعل مواطنون وليس شركات أجنبية أو مختلطة، كما هو الحال في المغرب أو السودان على سبيل المثال. ليست هذه الظاهرة جديدة، حيث استحوذت الدولة على أراض زراعيّة، غالبًا من أجل إنشاء مشاريع كبيرة (سدود، وطرق، ومناطق صناعية أو سياحية، إلخ).

في هذه المقالة، نناقش فقط حالة الاستيلاء على الأراضي لتطوير الزراعة الاستخراجية المعتمدة على:

  • إدخال أصناف من الأشجار المثمرة، معظمها مستورد
  • الاستخدام المكثّف للمياه
  • الإفراط في استخدام المُدخَلات (مبيدات، أسمدة معدنية، إلخ).

هذه الظاهرة ذات صلة خاصة بالأراضي التي تطورت فيها الزراعة التجارية. تركزت في البداية في شمال البلاد، و بشكل أساسي في تنمية زراعة الفاكهة (الحمضيات، الاجّاص، الكروم). كانت البساتين تروى بمياه السدود، وكانت جزءًا من المناطق السقوية التي أنشأتها الدولة.

تطورت عمليات الاستيلاء على الأراضي بشكل خاص في وسط البلاد، حيث اشترى “مستثمرون” أراضي صغار الفلاّحين، وطوّروا الزراعات ذات الكثافة العالية (الأشجار المثمرة والزراعات الموسميّة)، عبر ضخّ المياه من الفرشات المائية الجوفية العميقة. لم يكن المستثمرون سوى أطباء ومحامين وأكاديميين… كان دخلُهم مستقلاّ عن الفلاحة، كما جرى الأمر عبر شركات تمّ تشكيلها لهذا الغرض. لقد قاموا بإدخال أصناف أجنبية معروفة بتقدّم فترات إنتاجها (باكورات) وإنتاجها الوفير (خوخ وتفّاح وحمضيّات وكروم خالية من البذور، الخ)، بالإضافة إلى أنواع مختلفة من أشجار الزيتون من أصول إيطالية أو إسبانية أو يونانية (أصناف Arbosana ، Koroneiki ، Arbequina، إلخ.).

يتميز هذا النموذج من الزراعة بكثافة عالية من الأشجار في الهكتار (أكثر من 1000 شجرة زيتون في هكتار على سبيل المثال)، وبالاستغلال المفرط لموارد المياه الجوفية، فضلاً عن الاستخدام غير المحدود للمُدخلات (مبيدات الآفات والأسمدة المعدنية). أصبح المُلاّك السابقون أجراء لدى المُشغِّلين الجدد ،أو هاجروا إلى القرى المجاورة. وتتجاوز مساحات المزارع من هذا النوع متوسط حجم مزارع الفلاحين 1. غالبًا ما تكون القوى العاملة من النساء غير المختصّات ذوات أجور متدنية. ويشتغل العمّال دون حماية، حتى عند مناولة مع المواد الخطرة.

تتميّز الحقول ،من حيث إدارة الغراسات، بتجانسها (زراعة نوع واحد في كلّ الحقل أو البستان)، ما يزيد تعرّضها لهجمات الحشرات والطفيليات. قلّة من الحقول تُزرع فيها أنواع مختلفة جنبًا إلى جنب، ربما لنقص المساحة أو رغبة المالك في زيادة الإنتاج وتنويع المحاصيل.

على سبيل المثال، انتشرت زراعة الزيتون بكثافة عالية في جميع أنحاء البلاد، مع تركيز أكبر في مناطق زغوان وبن عروس (بالشمال) وسيدي بوزيد وقفصة (في الوسط). وعلى الرغم من ارتفاع كُلفة الاستثمار، التي تتجاوز إمكانيات صغار المنتجين، يتجه هذا النّمط من المزارع نحو التوسّع، بسبب وفرة إنتاجه مقارنة بالزراعات التقليدية. لكن يبدو أن المزارعين لا يتقنون تقنيات الزراعة (الري، التسميد المعدني). يبقى قطف الزيتون يدويًّا في الغالب، نظرًا لكُلفة آلات جمع الزيتون. رغم التّكثيف، تظل انتاجية الزيتون في تونس أقل من نظيرها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 2.

امتد الاستيلاء على الأراضي والتّكثيف، المعروف في بداياته في منطقة الرقاب وسط تونس، إلى أجزاء أخرى من البلاد (خاصة القيروان وقفصة)، وكذا إلى مناطق السهوب. تتميز جميع هذه المناطق بجفافها (متوسط التساقطات المطرية السنوي أقل من 300 مم). هذا ورغم الظّروف الطبيعية التي لا تتيح استخدام المياه المكثف، يقوم المُستغلّون الجدد باستهلاك هذا المورد بشكل غير محدود، ويسحبونه من مصادر جوفية عميقة، ما يتسبّب في انخفاض مستوى فرشات المياه الجوفية وتدهور جودة الماء (زيادة الملوحة). ومن النتائج الأخرى التي يمكن ملاحظتها بالعين المجرّدة، جفاف أشجار الزيتون غير المروية، حتى الأكبر منها حجما وسِنّا، بسبب هبوط مستوى الفرشات الجوفية، في مناطق الضخٌّ المفرط. والنتيجة المنطقية لهذا النوع من الزراعة هي اختفاء العديد من الأصناف التقليدية لأشجار الفاكهة، لتحلّ محلّها الأصناف الدخيلة.

إن إنتاج هذه المزارع مخصّص للأسواق الخارجية (خاصّة زيت الزيتون) وكذلك للأسواق المحلية. للحفاظ على مداخيل مرتفعة، قام “المستثمرون” بربط غرف التبريد بمحاصيلهم حيث يتمّ تخزين منتجاتهم (الفواكه وكذلك الخضروات). إنهم يزودون الأسواق تدريجياً بكميات محدودة من انتاجهم، لإبقاء أسعار منتوجاتهم مرتفعة.

من المفيد ذكر بعض حالات محدّدة للاستيلاء على الأراضي. أولاها حالة شركة إيطالية استأجرت أرض فلاّحين صغار بجهة القيروان. أنتجت هذه الشركة نباتات عطرية بطريقة عضوية (حبق، مريميّة (sauge)، إكليل، إلخ) و قامت بتصديرها بالكامل إلى إيطاليا. نظرًا لأن المياه التي تم ضخها كانت مالحة، فقد استخدمت هذه المؤسّسة تقنية التناضح العكسي لتقليل ملوحتها. بعد بضع سنوات من التشغيل، توقفت الشركة عن العمل.

في هذه الحالة تحديدا، كانت المنتوجات مخصّصة حصريًا للسوق الأجنبية. وكانت كمّيات المياه المستعملة كبيرة، والمياه شديدة الملوحة الناتجة عن التناضح العكسي يتم تصريفها في البيئة الطبيعية ، وبالتالي زيادة ملوحة التربة.

هناكـ حالة أخرى، بمنطقة القيروان كذلك، وهي تتعلّق بشركة فرنسية “استأجرت” أراض للدولة (من أملاكـ الدولة)، بتواطؤ بعض السياسيين رفيعي المستوى. أنتجت محاصيل زراعات موسميّة (سلطات ، خرشوف ، إلخ) وفواكه (خوخ، عوينة، مشمش) مخصّصة بالكامل للسوق الفرنسية. كما قام المستغِلّون بتأجير أراض لبعض الخواص، حيث كان يوجد مقر الشركة، مخازنها وغرف تبريدها. استمرت الشركة في توسيع مجال استغلالها للأراضي العمومية بمرور الوقت، كما قامت باستغلال البنية التحتية الهيدروليكية العمومية (الآبار والأنابيب). في سنة 2015، دفعت حركة عمّالية المُستغِلّ الفرنسي لمغادرة المنطقة، بسبب أنّه لم يف بديونه للدّولة. واتّضح فيما بعد أن هذا الاستغلال أخفى عملية احتيال، لأنه لا يوجد عقد بين هذا “المستثمر” والدولة، واستغلاله للملك العمومي كان بتواطئ من بعض السياسيين…

والمثال الثالث “مستثمر” آخر من أصل سويسري، في علاقة بشركاء تونسيين، استأجر في التسعينيات مزرعة حكومية لزراعة الجوجوبا، وهو شجيرة أجنبية خُصِّصت منتجاتها للسوق الأجنبي. تقع المزرعة في منطقة المكناسي بسيدي بوزيد وتغطّي زراعة الجوجوبا 500 هكتارا. يعارض سكّان المنطقة، وخاصة الشباب العاطلين عن العمل من خرّيجي الجامعات، هذا النوع من الاستغلال ويطالبون بمنح الأرض للمُعطَّلين عن العمل المحليين الذين يرغبون في تطويرها من أجل العيش.

هذه المؤسّسة لا تزال بصدد الاشتغال. توظف هذه المزرعة بأكملها أقل من 20 شخصًا، ممّا يدلّ بوضوح على أنّ هذا النّوع من الزراعة لا يوفّر فرص عمل ولا يقوم بأيّ دور اجتماعي، فضلا عن استنزاف الموارد المحلية.

وتجدر الملاحظة إلى أنّ زراعة الجوجوبا تستهوي العديد من “الخبراء” 3، ولا سيما خبراء وزارة البيئة، الذين يدعون إلى توسيعها من أجل تنمية الصادرات. يبدو أن هؤلاء لا يأخذون بعين اعتبار غير المردود المالي لهذه الغراسة.

تُمَثّل شركات الإحياء والتنمية الفلاحية (SMVDA) شكلا آخر من أشكال الاستيلاء على الأراضي الفلاحية المملوكة للدّولة. وهي تتمثّل في تأجير الأراضي الفلاحية العموميّة للمستثمرين، وهي ناتجة عن انسحاب الدولة من الإنتاج الفلاحي. ومع ذلك، تظلّ الملكية عموميّة. وهكذا، تمّ منح 145000 هكتارا لشركات الإحياء والتنمية الفلاحية 4. لم يكن منح الأراضي الفلاحية العموميّة لهذه الشركات شفافًا 5. وبالفعل، فقد مُنحت العديد من الأراضي لأقارب الرئيس المعزول ولمن كان قريبًا من السلطة، ولم تُحتَرَم التزامات التّأجير. يبدو أنّه تمّ الحفاظ على نفس الممارسات بعد الثورة.

وثمة أشكال أخرى من الإستحواذ على الأراضي لفائدة الأفراد، أو الخواصّ، ونعني بذلكـ الأراضي المشتركة، أو ما يُعبَّر عنه بتونس بـ”أراضي العروش”، أو أراضي السُّلالات. يجري استعمال هذه الأراضي عادة في الرعي (الضأن والإبل)، خصوصا بجنوب البلاد وبالسباسب. ونظرا لتطوّر المجتمع وانحصار دور القبيلة، لجأ العديد من أبناء هذه الأخيرة إلى استصلاح هذه الأراضي وغراستها وبالتّالي تملُّكَها. لا توجد في الوقت الحالي إحصائيات رسمية حول مساحات الأراضي ذات الصّبغة الرعوية التي تم تحويلها إلى أراض فلاحية أو واحات، مثلما لم تحدُث لحدّ الآن نزاعات حول هذا الشّكل من التّملّك.

إجمالا، يتمّ الاستيلاء على الأراضي في تونس من طرف مُستَغِلّين ذوي دخل مستقلّ عن النشاط الفلاحي. إن طريقة استغلالهم للأرض هي من النّمط الاستخراجي، ممّا يؤدّي إلى استنزاف موارد المياه والتربة، لتحقيق أقصى قدر من الربح على المدى القصير. هذا النوع من الاستغلال له عواقب وخيمة على البيئة وعلى صحة كل من العمّال الفلاحيين والمستهلكين. في الواقع، بعض المبيدات المستخدمة غير مسموح باستعمالها في أوروبا على سبيل المثال. يمنح غياب الرقابة الصحية أو البيئية هؤلاء المستغلّين حرّية استخدام موادّ لها عواقب سلبية على أولئك الذين يمسّونها (العمّال والمستهلكون). إن انتشار أمراض السرطان بين العمّال هو أحد مؤشّرات ضرر الموادّ التي يستخدمها العمّال دون وقاية.

هذا النموذج من استغلال الأرض غير مستدام، لأنه يستنفد الموارد المتاحة في ظرف سنوات قليلة، خاصة في المناطق التي يكون فيها نقص المياه عنصرا قارّا. إنه سبب فقدان التنوع البيولوجي للأصناف المحلّيّة التي لم تستطع مقاومة استيراد أصناف ذات إنتاجية عالية. ومع ذلك، يجب أن نضيف أن النّموذج مفرط التّركيز لا زال يجذب المنتجين المتوسّطين والكبار بسبب انتاجه العالي؛ والدليل على ذلك هو الزيادة التدريجية في المساحات المُخصَّصة لهذه المحاصيل. حينئذ، في مواجهة أزمة المناخ، فإنّ الأصناف التي تم إدخالها بعيدة كل البعد عن المرونة وقد لا تكون في نهاية المطاف قابلة للاستمرار (ارتفاع استهلاك المياه والتعرّض لهجمات الحشرات التي قد تدخل للبلاد).

أخيرًا، يمكن أن تشكّل الحركات المقاوِمة للاستيلاء على الأراضي بداية جديدة لضمان السيادة الغذائية للبلاد إذا تبنّت الزراعة الإيكولوجية كبديل للتّوجّهات المتغوِّلة للمستثمرين الذين لا هم لهم غير هو زيادة الأرباح على حساب صحّة العمال والمستهلكين وكذلك البيئة التي يشتغلون في إطارها.

يعتبر تعزيز موقع الزراعة الإيكولوجية داخل أوساط صغار المنتجين إحدى المهام التي يجب على شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية أن تقوم بها. في الواقع، إذا كانت المُستَغَلاّت الصّغيرة توفّر دخلاً لائقًا لصغار المنتجين، وكانت ممارساتهم المستدامة تساهم في رفاههم وصحّة مزارعهم، فلن يتردّدوا في تبنّي الزراعة الإيكولوجية كأسلوب للإنتاج. يمكن البدء في هذا العمل طويل المدى من خلال جرد تقنيات الإنتاج التقليدية وتعزيزها، من خلال ربطها بالمعارف الحالية (تقنيات جمع مياه السيلان السطحي، القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية وما إلى ذلك). يرجع غياب حركات الشباب أو صغار المنتجين الذين يتبنون الزراعة الإيكولوجية إلى حدّ كبير إلى عدم وجود روابط بين هذه الحركات والتّيّار العالمي الذي يحمل هذه البدائل في مواجهة منطق السّوق السائد.

محسن كلبوسي – تونس

المقال أعلاه مأخوذ من العدد الثاني لمجلة “سيادة

للاطلاع على العدد كاملا وتحميله من: هنا


هوامش

1- تمسح 72 % من مُستَغَلاّت الززياتين أقلّ من عشرة هكتارات. أنظر دافيد جاكسون، ليزا بالياتّي، مارشا ريبايرو، بوبكر كراي، 2015. تونس، تحليل لقطاع انتاج الزيتون. منظمة الامم المتحدة للتغذية والزراعة، 167 ص (مصدر بالفرنسية).

2- أنظر المصدر السابق.

3- انظر مثلا: MEDD, sans date. Pour une stratégie sur la diversité biologique à l’horizon 2020. Volume II : la biodiversité végétale, 182 p. + annexes

4- يعود هذا الرقم لسنة 2011. أنظر محمد اللومي، 2013. الأراضي الدولية في تونس، تاريخ تملّكـ من طرف السّطات العموميّة. دراسات ريفيّة، 192، مقال بالفرنسية؛ http://journals.openedition.org/etudesrurales/9888 ; DOI : 10.4000/etudesrurales.9888

5- مثلا، وقع منح، سنة 2020، ضيعة بـ415 هكتارا لأحد نوّاب مجلس نوّاب الشعب. أنظر https://lapresse.tn/95864/i-watch-denonce-lattribution-dune-ferme-de-415-hectares-a-un-depute-de-larp/