في تقريره الأخير(1) أعرب البنك الدولي عن قلقه على حالة الاقتصاد في لبنان، في الوقت الذي أعلن فيه ساروج كومار جها، المدير الإقليمي للبنك الدولي في المشرق، عن أنَّ “لبنان أضاع وقتًا ثمينًا” و”هناك حاجة لإجراءات عاجلة فورًا”، بعد أن انخفض الناتج المحلي الإجمالي الاِسمي إلى ما يقرب من 52 مليار دولار في عام 2019 إلى 21.8 مليار دولار في 2021، مسجلًا انكماشًا بنسبة 58.1%، وانكماشًا إضافيًا بنسبة 6.5% في عام 2022.
ويشير التقرير ذاته إلى الحاجة إلى “إجراء عاجل” يأتي على النحو التالي:
أولًا: وضع إطار جديد للسياسة النقدية يُمكِّن البلاد من استعادة الثقة والاستقرار في سعر الصرف، ما يعني السماح للعُملة المحلية بمزيد من الهبوط و”تحرير” السوق المحلية لمزيد من الواردات.
ثانيًا: وضع برنامج لإعادة هيكلة الديون يُمْكِنُه خلقَ حيز مالي قصير الأجل، بالإضافة إلى قدرة متوسطة الأجل على تحمل الديون، وهو ما يعني استبدال أنظمة الديون المحلية التي يمكن إدارتها من خلال التأميم بالديون الدولية التي لا يمكن إدارتها والمُعرَّضة للعقوبات.
ثالثا: إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي، لاستعادة قدرة القطاع المصرفي على السداد، وهو ما يعني إنقاذ المصارف التي تتحمَّل مسؤولية أساسية في الكارثة الاقتصادية الحالية.
رابعًا: تعديل مالي مرحلي ومُنصِف لاستعادة الثقة في السياسة المالية.
خامسًا: إصلاحات مُعزِزة للنمو.
وأخيرًا: حماية اجتماعية مُعزَزة، ما يعني مزيد من تحرير ما تبقى من قيود مالية ونقدية تَحُوْل دون تكوين الشراكات بين القطاعين العام والخاص التي يفرضها البنك الدولي على غرار تلك المذكورة في التقرير مثل IMPACT، لخلق “مناخ صديق للمستثمر” يجذب الاستثمار الأجنبي و”يُحفِّز”عودة الناتج المحلي الإجمالي إلى النمو.
مع صدور تقرير البنك الدولي، بالتزامن مع عجز السياسيين في لبنان عن انتخاب رئيس يخلف ميشال عون، في يونيو الماضي، تراجعت قيمة الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق لتصل إلى 90 ألف ليرة مقابل الدولار الأمريكي في السوق السوداء(2)، في إشارة إلى ما ستؤول إليه الأمور من مزيد من فقدان السيطرة على العُملة، حال عدم التوصل إلى حل سياسي.
وعلى الرغم من تناقض هذه السيناريوهات الثلاثة (الجمود السياسي، الحد الأدنى من الإجماع، والتحول السياسي) لا يزال البنك الدولي يُصِرُّ على ضرورة امتلاك الدولة اللبنانية القدرة على القيام بالإجراءات العاجلة المُفصَّلة أعلاه.
وربما يشير ذلك إلى حيازة البنك الدولي ضمانات من جميع عناصر البرلمان المُعاد تشكيله بأنهم على استعداد للقيام بما هو مطلوب لتمرير الإصلاحات، كي تتمكن الحكومة من المطالبة بمزيد من الأموال من البنك الدولي وصندوق النقد، ونقل الكارثة الاقتصادية من المُقرِضين “المحليين” المُفْلِسين (أي المصارف المحلية) إلى المُقرِضين الدوليين: البنك العالمي وصندوق النقد الدولي.
تُعَدُ حالة لبنان مثيرة للاهتمام بشكل خاص، حيث كان اقتصاده- بخلاف جيرانه العرب- يدور دومًا حول القطاع المصرفي “المحلي”.
أدَّى إفلاس معظم المصارف المحلية الكبرى المُشارِكة في مُخطط “بونزي” للدين العام في السنوات الأربع الماضية إلى تداعيات سياسية اتضحت في الجولة الأخيرة من الانتخابات البرجوازية التي سمحت لجناح “14 آذار” بإعادة تشكيل نفسه، وصعود جناح التكنوقراط من المرتبطين مهنيًا وعقائديًا بمؤسسات التمويل الدولية.
ولا بُدَّ لهذا التحول الهيكلي الكبير في القطاع المالي والاقتصادي أن يُترجم سياسيًا، حيث تعيد الطبقة الحاكمة تشكيل نفسها من أجل التكيُّف مع المشهد الاقتصادي المتغير.
وتُعَدُ حالة لبنان مثيرة للاهتمام بشكل خاص، حيث كان اقتصاده- بخلاف جيرانه العرب- يدور دومًا حول القطاع المصرفي “المحلي”، وكان الاعتماد على رأس المال المالي يتكرر في المشهد الاجتماعي السياسي اللبناني منذ نشأة الدولة القومية اللبنانية، ما جعلها دولة تعيش أزمة دائمة.
بلد على الحافَّة
بعد مرور شهرين على انتفاضة تشرين الأول/أكتوبر 2019، طلبت الحكومة اللبنانية (رسميًا) مساعدةَ صندوق النقد الدولي لإنقاذ الاقتصاد(3)، وكان هذا بمثابة تحول استراتيجي في دور الدولة اللبنانية من مجرد وسيط في رأس المال المالي (على الرغم من مشاركة الحكومات اللبنانية المتعاقبة في استشارات المادة الرابعة للصندوق والتي تَقضِي بإعداد تقرير سنوي عن الاقتصاد) إلى شريك أساسي في اللعبة.
في ضوء ذلك، توصَّل صندوق النقد الدولي، قبل الانتخابات في يونيو الماضي، إلى اتفاق على مستوى الموظفين حول سياسات لبنان الاقتصادية لتسهيل مسار تمويل ممتد لفترة 4 سنوات بنحو 3 مليارات دولار(4) ما يستدعي الرد على السؤال التالي: كيف قامت الطبقة الحاكمة بإعادة تكوين نفسها؟
لقد تخلصت تلك الطبقة ببساطة من الشريحة الحاكمة الأكثر استثمارًا في إعادة إنتاج مخطط “بونزي” للدَين العام المحلي (بشكل أساسي كتلة الحريري) واستبدلت به قسمين: التكنوقراط والفاشيين. والقسم الأول قادر على إدارة المساعدات والأموال الدولية (بيروقراطية عُمالية وفنيون تربيهم المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص) أما القسم الثاني، فبارع في تأمين تطبيق تدابير التقشف عسكريًا عن طريق نشر العنف متى شاء (حزب القوات اللبنانية الذي أُعيد تنشيطه ويقود الآن تحالف اليمين الشعبوي).
يتيح التحالف الجديد إعادة تشكيل جناح “14 آذار” الليبرالي في الطبقة الحاكمة، بينما يتعثر جناح “8 آذار” المرتبط بجماعة حزب الله، فالتكنوقراط الذين ترعرعوا في حركة معادية للثورة سبقت الانتفاضة اللبنانية، قادرون على استعارة جماليات الانتفاضة والتعبير عنها بمهارة من خلال تصنيف أنفسهم “قوائم معارضة” و”مستقلون” و”غير طائفيين”، في مسيرتهم الاستعراضية نحو البرلمان(5).
وبالتالي، تتكون “قوائم المعارضة” من قيادة ليبرالية جديدة تهدف بشكل دائم إلى تفكيك وتحويل جمالية الانتفاضة إلى موجة إصلاحية، تستخدم بعض اللغة والكلمات الرئيسية التقليدية للانتفاضة لتوصيل إيديولوجية نيوليبرالية بشكل أساسي.
وحيث إنَّ الإيديولوجيا تمقت الفراغ، فإنَّ هيمنة الجماليات الإيديولوجية البلاغية الثورية وشعاراتها على المجال العام، بدلًا من محتواها الاستراتيجي السياسي، يسمح لمؤسسات التمويل الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، بنشر إيديولوجيتهما الليبرالية.
وإذا تركنا الساحة الإيديولوجية ونظرنا إلى الواقع الاقتصادي، سنجد أنَّ البنك الدولي يدعم مشروع الاستجابة الطارئة لإمدادات القمح (135 مليون دولار من البنك الدولي للإنشاء والتعمير و15 مليون دولار من الصندوق العالمي للتمويل المُيسَّر) بهدف ضمان توافر القمح في لبنان، تعاطيًا مع اضطرابات سوق السلع العالمية، وحِفاظًا على إمكانية وصول الأُسَر الفقيرة والضعيفة إلى الخبز الميسور التكلفة.
يتغلغل هذا المشروع في عمق الاقتصاد اللبناني، إذ جرى ترسيخه بقوة، واستثماره إيديولوجيًا في إعادة إنتاج احتكارات السوق الحالية لسلسلة توريد القمح الإقليمية والمحلية، ما يسمح لكل احتكار على طول هذه السلسلة إمَّا أنْ ينجو من الأزمة، أو في أسوأ السيناريوهات أنْ يتوطد عموديًا، من خلال زيادة دمج المنبع والمصب في سلسلة التوريد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن توجيهات صندوق النقد الدولي (6) لزيادة خصخصة أصول الدولة، والتي كانت تدور تاريخيًا حول قطاعات خدمية مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية، قد جرى استبدالها تدريجيًا بإطار شراكة بين القطاعين العام والخاص يبدو أنه أكثر جاذبية للاستثمار الرأسمالي.
حصار صغار ومتوسطي المزارعين في لبنان
في العِقدين الماضيين، كانت وزارة الزراعة اللبنانية تحصل على نحو 1-3٪ من الميزانية السنوية للدولة، ومن المرجح أن ينخفض هذا الرقم في السنوات القادمة، وبالتالي فإن الشِراكات بين القطاعين العام والخاص (التي أشاد بها صندوق النقد الدولي باعتبارها التِرياق المُنقِذ لمجال متعثر) ستعطي ميزة كبيرة للقطاع الخاص في تلك الشِراكة بالنظر إلى التراجع التدريجي للقطاع العام.
ومن الأمثلة على ذلك أنَّ هيئة تنمية الاستثمار في لبنان “إيدال” التي تأسست عام 1994 لتشجيع وتسهيل الاستثمار وتسويق الصادرات اللبنانية، قامت بتشغيل برنامج لدعم الصادرات يسمى (AgriPlus) للمنتجات الزراعية والصناعية الزراعية لتحفيز المنتجين على تصدير سلعهم، وحصل البرنامج على ميزانية أولية قدرها 33 مليون دولار للدعم، ولكنْ بعد التعرض لمشكلات في السيولة، قامت الدولة بتعليق “إيدال” وإغلاقها.
وفي عام 2000 جرى إنشاء شركة ضمان قروض تُسمى “كفالات” لتحسين وصول الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى القروض المصرفية، من خلال تقديم ضمانات قروض للقطاعات والشركات المؤهلة، مقابل 2.5% يدفعها المقترض كرسوم، وللحصول على موافقة “كفالات”، كان يجري دراسة ملف ومشروع مُقدِّم الطلب وتقييمهما والموافقة عليهما من قِبَل المصرف، في إشارة إلى مركزية المصارف في خطط التمويل الرئيسية في حقبة ما قبل 2019.
أما برنامج “كفالات” الزراعي، وهو مُنتَج مالي طورته الشركة، فقد نُفِّذ في إطار برنامج التنمية الزراعية والريفية المُمول من الاتحاد الأوروبي والمُنفَّذ من قِبَل وزارة الزراعة اللبنانية، والذي يهدف إلى تمويل الأنشطة المتعلقة بالزراعة، ويستهدف تمويل الأعمال التجارية، وخاصة الزراعة الصغيرة ومزارع الأشجار، وكانت شركة “كفالات” الزراعية قد طرحت مُنتَجَيْن: “مُنتَج الفلاحين” ومُنتَج “الأشجار”.
وفي نهاية عام 2019، كانت قيمة إجمالي محفظة القروض المضمونة من قِبَل شركة “كفالات” قد بلغت 515 مليون دولار، منها 37٪ مخصصة للزراعة (ويمثّل المزارعون 45٪ من المستفيدين من كفالات)، كما جرى إطلاق برامج أخرى، مثل الصندوق الاقتصادي والاجتماعي للتنمية (ESFD)، لمعالجة تعزيز القابلية المصرفية.
وكان التعميم رقم 331 الصادر عن المصرف المركزي في غشت/أغسطس 2013 قد أفاد عددًا كبيرًا من الشركات الناشئة في لبنان، وكان الغرض المُعلَن من إصداره هو “اهتمام مصرف لبنان بصناعة المعرفة” بهدف “تحسين بيئة الأعمال وتحفيز الاستثمارات في الشركات الناشئة وزيادة الأمل لرواد الأعمال”.
وسمح التعميم للبنك المركزي بضخ أكثر من 329 مليون دولار بدلات بدون فوائد في المصارف التجارية التي ضَمِنت أنَّ أي “نوع من الاستثمارات التي يقوم بها المصرف ستحصل على تمويل وضمان خسارة تصل إلى 75٪ من الاستثمارات، على أن يتم تقسيم الأرباح بين المصارف المشاركة والبنك المركزي بنسبة 50-50٪”.
وبين عامي 2013 و2017، تلقى قطاع التكنولوجيا في لبنان 162 استثمارًا (7) وكانت شركات الأغذية الزراعية هي المستفيد الرئيسي من مثل هذه السياسة التي وجهت استثماراتها المستقبلية نحو التوليف بين الزراعة والتكنولوجيا.
تقوم المصارف التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بنشر الأدوات والتقنيات المالية التي تدفع السوق نحو مزيد من تكريس الاحتكارات، وإزاحة المخاطر المالية لتستقر على كاهل المزارعين الصغار والمتوسطين.
وأخيرًا، ازدهرت صناعة التمويل الأصغر في العِقد الماضي وتوسعت بشكل هائل بسبب غياب المصارف التجارية عن الاستثمار في المناطق الريفية في لبنان، وبذلك حققت استفادة كبيرة من القطاع الزراعي، وقبل اندلاع أزمة 2019 بقليل، قُدِّر اقتصاد التمويل الأصغر في لبنان بنحو 170 ألف عميل/أسرة، ويمكن تقدير قيمته في ذلك الوقت بنحو 170-200 مليون دولار أمريكي.
وهناك 9 مؤسسات في لبنان تُقدم رسميًا خدمات مالية صغيرة، منها 5 مسجلة كمنظمات غير حكومية، و3 مؤسسات مالية مُسجَّلةٌ لدى مصرف لبنان ومُنظَّمةٌ من قِبَله، ومؤسسة واحدة تعاونية، وتجتمع في شبكة تسمى “الجمعية اللبنانية للتمويل الأصغر” (LMFA)التي أنشأتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ويُضاف إلى ذلك مؤسسة “القرض الحَسَن” المُدرجة في القائمة السوداء من قِبَل الولايات المتحدة لصلتها بجماعة “حزب الله”.
وتُعَدُ تلك المجموعة أكبر مؤسسة للتمويل الأصغر في السوق تحت رعاية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وتضم 95 ألف حساب بمحفظة قدرها 100 مليون دولار (أي نحو 55٪ من السوق).
أما المؤسسات المالية الثلاث الأخرى التي تقدم خدمات التمويل الأصغر من أجل الربح فهي: 1- “فيتاس” المُمولة سابقًا من قِبَل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتي تحولت في النهاية إلى مؤسسة مالية، فإنَّ 49٪ منها مملوكة الآن لبنك “سرادار” (25 ألف حساب). 2- “إمكان” (منظمة غير حكومية تحولت إلى مؤسسة مالية مملوكة من قِبَل (BankMed) وهو أحد أصول الحريري) وتدير من 14 ألف إلى 15 ألف حساب، بمحفظة قدرها 53 مليون دولار. 3- شركة “إبداع” المملوكة لـ(صندوق الخليج العربي للتنمية) (AGFUND) التي تدير 18 ألف حساب.
تقوم ثلاثية صناعة التمويل الأصغر (المُمولة والمدعومة بشكل كبير من قِبَل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والخارجية الأمريكية)، والبنوك التجارية (تحت رعاية السياسة النقدية والمالية للبنك المركزي)، والمؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي) بالتكامل والتنافس مع بعضها البعض لتمويل كل جانب من جوانب السلسلة الغذائية الزراعية.
وبموازاة ذلك، تقوم مؤسسات التمويل الأصغر بتمويل الذين لا يتعاملون مع البنوك، والمزارعين الصغار والمتوسطين الذين يحتاجون إلى سيولة دائمة ولا يمكنهم الوصول إلى الحسابات المصرفية.
وتقوم المصارف التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بنشر الأدوات والتقنيات المالية التي تدفع السوق نحو مزيد من تمويل سلسلة التوريد الزراعي، وتكريس الاحتكارات على طول الطريق، وإزاحة المخاطر المالية لتستقر على كاهل المزارعين الصغار والمتوسطين، مع ترسيخ التوسع في الأعمال التجارية الزراعية.
وكما أوضح مارتين أربوليدا وتوماس ف. بورسيل، مستخدمين حالة تشيلي لاستقراء بقية العالم (8)، فقد أصبحت النُظُم الغذائية المُعولَمة تتميز بشكل متزايد بديناميات رِيعية، ويُفهم الرِيع على أنه العلاقة التي تعتمد على السيطرة الاحتكارية لرأس المال (أو كما هو مُفصَّل في هذه المقالة: سلسلة التوريد الزراعية في الاتجاهين)، والتي تكشف عن طفرة أوسع في القوة الطبقية التي وضعت أصحاب العقارات بشكل متزايد في مركز ديناميات تكوين الثروة في ظل الرأسمالية المتأخرة.
أما المزارعون الصغار والمتوسطون الذين سددوا قروضهم قبل عام 2019 (سواء لمؤسسات التمويل الأصغر أو المصارف التجارية) بمعدل 1500 ليرة لبنانية للدولار الأمريكي، فيتعين عليهم الآن سداد هذه القروض بالمعدل الحالي الذي يبلغ 90 ألف ليرة لبنانية، لذلك يجد المزارعون الصغار والمتوسطون أنفسهم محاصرين داخل مثلث خبيث من الاستغلال، يتألف من شركات الأعمال التجارية الزراعية التي تحتكر المنتجات النهائية، والتي تضمن إنتاج السلع الزراعية بشكل ضار (مثل أسواق البذور غير المتوارثة والأسمدة ومبيدات الأعشاب والفطريات الكيماوية) التي تحصل على تمويل هائل وتنظمها وتدعمها المؤسسات النقدية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين (وبتشجيع من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية).
ويضم المثلث نفسه الاحتكارات التي تعمل على المستوى المحلي، من قبيل أسواق الخضار والفواكه بالجملة، التي تحدد أسعار الجملة للسلع وتتقاضى عشرات الأضعاف من الأسواق، ويكتمل المثلث بالمؤسسات المالية المذكورة سابقًا (سواء كان ذلك تمويلًا صغيرًا أو مصارف تجارية) والتي تُقرِض الأموال للمزارعين الصغار والمتوسطين في ظل ظروف محددة، حين تتماشى أنشطتهم الزراعية مع الممارسات الزراعية التي يمكن جعلها مجالًا مفتوحًا للتمويل بسهولة.
يعتمد إنتاج الغذاء التجاري في لبنان على استغلال فئات مسحوقة من المزارعين الصغار والمتوسطين والعمال والعاملات في الزراعة، والأمثلة الحيَّة على ما سبق كثيرة، لكنَّ الفئة الأكثر قهرًا هن النساء اللاجئات السوريات في لبنان وأطفالهن، إذ يعمد منتجو الغذاء إلى الاستعانة بالعاملات الزراعيات من اللاجئات السوريات وأطفالهن للعمل في الحقول، ضمن تحالف بين سلاسل الاستغلال التي تتسلط عليهن وعلى أولادهن، بحيث يقوم التابعون للسلطة بإجبار أطفال اللاجئات السوريات في لبنان على التوقف عن الذهاب إلى المدارس لمساعدة أمهاتهن في العمل في الحقول.
وطبعًا، ومن البديهي في هذه الحالة، أن العائد المادي غالبًا ما يقارب أقل من دولار أميركي في اليوم، (إذا تم الدفع) فيأتي الغذاء مغمسًا بالدموع والعذاب بالاعتماد على استعباد اللاجئات السوريات وأطفالهن.
أمّا صغار المزارعين في لبنان ضمن مثلث الديون وسلاسل الإنتاج وأيدي “الهيئات الاقتصادية” المُمثِلة للسلطة الحاكمة، فليس لديهم- كما سائر السكان في لبنان- شبكات أمان تساندهم، والخيار الوحيد المتاح أمامهم هو العمل ضمن شروط السوق الرأسمالي بشروطه المتوحشة المُستعبِدة والمُستغِلَّة لحياتهم.
وفي الآونة الأخيرة، بدأ بعض صغار المزارعين بنسج شبكات أمان خاصة بهم، وإنْ على نطاق محدود في القرى وبعض المناطق الريفية في لبنان، إذ بدأت بعض المجموعات التعاونية بالتَّشكُل وصياغة نوع من الخطاب البديل، إنما الخجول، لكنها بداية!
من جهة أخرى، تَعْمَدُ مجموعات وحركات زراعية في لبنان إلى اعتماد طرق زراعية مُستدامة وتوفير المُدخلات على المزارع والحقول، وبدأت بصناعة السماد المُسبَّخ من المخلفات الزراعية، واعتماد البذور البلدية غير الهجينة والتي لا يمكن احتكارها وتسمح بإعادة التبذير عند كل موسم، وتمتاز بمقاومتها لمعظم الآفات الزراعية والتغيرات المناخية، كما بدأت بتبادل الشتول والبذور البلدية.
في المقابل، تقوم بعض الجمعيات اللبنانية، تحت عنوان “الزراعة المُستدامة”، بحملات وأنشطة لتوزيع قروض مالية وعينية على صغار المزارعين، عادةً ما تكون مرتبطة بمنتوجات مُصنَّعة من قِبَل الشركات المُحْتكِرة، لكنها تأتي على شكل مساعدات اجتماعية إنسانية قد تبدو مفيدة، لكنَّ تأثيرها الإجمالي سلبي للغاية على الفلاحين، فبالإضافة إلى تعميم أفكار التكنولوجيا الزراعية، التي يتبناها رواد أعمال شباب يبحثون عن “ابتكار” منتجات غذائية أو تكنولوجيا مرتبطة بالزراعة الحديثة، تتسبب تلك المقاربات في إعطاء المانحين مسؤولية وضع الشروط المفيدة لهم فيما يخص الإنتاج، كما ينتج عنها ربط رواد الأعمال بسلسلة من منتجي الغذاء المديونين في أغلب الأحيان، حيث يحاول الرواد خلق فرص للتستر على جوهر الأزمة التي أحدثتها برامجهم.
بدأ بعض صغار المزارعين بنسج شبكات أمان خاصة بهم، إذ بدأت بعض المجموعات التعاونية بالتَّشكُل وصياغة نوع من الخطاب البديل.
تتمثل أهداف هذه البرامج إمَّا في توريط المزارعين في سلسلة إنتاجية مرتبطة بمصالح الرواد، أو تحاول تغطية ما تورطوا فيه من فساد بغطاء وهمي، وهو التصدير، وفقًا لمعايير العالم الغربي، وكل هذا يحدث في ظل واقعنا الحالي، حيث لا ننتج سوى 20% من غذائنا في لبنان، بينما تُشكِّل الواردات 80% من غذائنا.
سيادة لابُد منها
تحقيق السيادة الغذائية في لبنان يُعَدُ أمرًا حاسمًا للتغلب على الأزمات التي يواجهها البلد، ويكمُن أساس تلك السيادة المرجوة في تمكين منتجي/ات الغذاء وإعطائهم الفرصة للنمو والتطور. يجب أن نثق بقدرتنا على تحقيق سيادة غذائية عادلة للجميع بمعزل عن مزاعم صندوق النقد الدولي.
- غ.م سياق/ لبنان
المقال أعلاه مأخوذ من مجلة سيادة – العدد الرابع: “هذا من عمل البنك والصندوق.. 40 عامًا من التخريب النيوليبرالي لسيادتنا الغذائية“.
يمكنكم\ن الاطلاع على العدد وتحميله من الرابط
الهوامش:
- Lebanon has Lost Precious Time, Urgent Action Needed Now
2- Value of Lebanese pound drops to all-time low
https://www.aljazeera.com/news/2022/5/26/lebanese-pound-value-drops-to-lowest-level
3- Lebanon launches IMF talks to rescue economy; more talks in coming days
https://www.reuters.com/article/us-lebanon-crisis-imf-idUSKBN22P339
4- IMF Reaches Staff-Level Agreement on Economic Policies with Lebanon for a Four-Year Extended Fund Facility
5- Protesters gather in support of opposition MPs at this morning’s Parliament session
- The IMF and Lebanon: The long road ahead – An assessment of how Lebanon’s economy may be stabilized while battling triple crisis and recovering from a deadly blast
ln.run/CU-aU
7- BDL Circular 331 as a Local Opportunity for Lebanese Talent: An Update
8- The rentierization of food: regimes of property and the making of Chile’s globalized agriculturehttps://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/03066150.2022.2082962