الحاجة المُلّحة للسيادة الغذائية لإنهاء آثار حرب التجويع الإسرائيلية على غزة



تزداد حدة أزمة الغذاء العالمية يومًا بعد يوم في ظل سعي الرأسمالية الحثيث للسيطرة على إنتاج الغذاء وسلْب الشعوب قدرتها على إنتاج غذائها، في تناقض صارخ مع المثل الذي يجسد خبرة الشعوب في هذا المضمار وهو «أكلك من فأسك؛ قرارك من رأسك»!

في هذا السياق المُركَّب من المساعي العنيدة للهيمنة من جهة، والرغبة العارمة في البقاء وحيازة المصير من جهة أخرى، يستمر الصراع على الأراضي الفلسطينية بين الوكيل المُدلّل للإمبريالية (وهي أعلى مراحل الرأسمالية كما قال لينين ذات يوم) وبين شعب يروم الحرية والسيادة على أرضه، وإنتاج غذائه من صُنع يده دون ارتهان للشركات العابرة للقوميات.

فما حدث بعد «السابع من أكتوبر» من حرب بربرية على قطاع غزة كان تجسيدًا عصريًا لمحاولة فرض الهيمنة والإخضاع على شعب مستضعف، جرى استهداف بِنيته التحتية وأراضيه الزراعية، أي ببساطة تحويل سكان القطاع من منتجين إلى متلقي مساعدات مع التحكُّم في المساعدات نفسها بشكل خانق إلى درجة إيصال السكان إلى حالة الجوع.

زينب الخيسي، مزارعة من شرق غزة، نزحت من أرضها نتيجة العدوان الإسرائيلي وتهجيرها القسري من منزلها لتعيش بمخيم في شوارع مدينة دير البلح في وسط القطاع، وبذلك فَقَدت زينب وزوجها كافّة مصادر الرزق من عمل وفِلاحة وحرث للأرض، وأصبحت تعتمد على المساعدات الإنسانية.

لكن صعوبة وصول المساعدات إلى قطاع غزة، ونقص الموارد، والحاجة المُلحة للغذاء، دعَوا زينب لإخراج ما احتفظت به من بذور الجرجير والسبانخ والسلق والبقدونس لتزرعهم في موسم البرد والمطر، من أجل توفير جزء من قوت يومها من الغذاء ولتُضِف بعض الأوراق الخضراء إلى طبق العدس، كما كانت تفعل منذ نعومة أظافرها، وباتت تحرص على رعاية النباتات واستخدام بواقي الطعام لتوفير الأسمدة العضوية وتقليبها في المساحة الصغيرة التي أعدتها للزرع بجوار خيمة النزوح.

لم تقُم زينب ببيع ما تنتجه، لكنها في المقابل وفّرت جزءًا بسيطًا من قوت يومها ومارست مهنتها وهوايتها التي اعتادت عليها على مدار حياة طويلة تحت الحصار.

لكن زينب مثل كل مزارعي غزة، كانت منتظرة المطر حتى يثمر زرعها بعد أن أصبح الوصول للماء بمثابة تحدٍ كبير، خصوصًا أن ما تقدمه المؤسسات لا يكفي لإكمال يومها، فضلًا عن أنها لا تستطيع شراء ماء بـ100 شيكل يوميًا.

أوقعت الحرب العدوانية على غزة وما تسببت فيه من تهجير وتشريد، زينب في تناقض لا يمكن حله في الظروف الحالية، فهي تدعو الله أن يجعل السماء تمطر لينمو زرعها، وتدعوه بعد قليل بأن يمنع السماء من المطر حتى لا تغرق خيمتها المنصوبة في العراء.

ما تعيشه زينب هي حالة كلاسيكية لما عاناه كل سكان القطاع من نقص الغذاء وصعوبة الإنتاج خلال فترة الحرب، لذلك تهدف هذه الورقة لعرض مُفصَّل لأزمة الغذاء في قطاع غزة وأسبابها خلال الحرب وما قبلها، مع اقتراح حلول بديلة للحد من، وتخفيف، آثار هذه المعاناة، كما تعرض في الآن نفسه الأبعاد السياسية لمشكلة الغذاء في غزة.

أولًا: سياسة التجويع الممنهجة التي اتبعها الاحتلال الإسرائيلي ضد أبناء الشعب الفلسطيني:

بعد أن كان القطاع الزراعي يشكل 167 كيلو مترًا مربعًا من إجمالي مساحة قطاع غزة أي من 360 كيلو مترًا مربعًا، وكان يساهم بنسبة 11 % من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022، كما يمثل 55 % من صادرات قطاع غزة، ويوفر الاكتفاء الذاتي لنحو 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة، أصبح القطاع الآن بلا أي مصدر محلي للغذاء.

إذ عملت قوات الاحتلال على مدار أكثر من 15 شهرًا من حرب الإبادة على تهجير 90% من مزارعي قطاع غزة من أمكانهم، وحرمانهم من الوصول إلى أراضيهم الزراعية والدفيئات التي جرى استهدافها بشكل مباشر، ونتج عن تلك السياسة التدميرية إحالة 65 ألف عامل في القطاع الزراعي إلى بند البطالة والإعالة والتهجير.

ثانيًا: الحصار لمدة 17 عامًا كان مقدمة طبيعية لحرب السابع من أكتوبر:

أفشل الاحتلال الإسرائيلي جهود عدد من المؤسسات الدولية والجهات ذات الصلة في تطبيق فكرة إنشاء بنك بذور بلدية في قطاع غزة، وعملت إسرائيل دون كلل على إيقاف دعم أي مشروع ينتج هجن من البذور أو حتى مدخلات الإنتاج الحيواني.

كذلك مارست إسرائيل التضييق على أعمال وزارة الزراعة في غزة، وسمحت فقط باستيراد البذور المُهجنة التي تنتج لمرة واحدة فقط، بالإضافة إلى منعها دخول عدد كبير من مدخلات الإنتاج الزراعي أو الإنتاج الحيواني للقطاع وذلك لتحجيم عمل الوحدات الإنتاجية للقطاع الحيواني والنباتية.

وكان الهدف من تلك الممارسات حبس قطاع غزة في دور المستهلك، وحرمان السكان من السيادة الكاملة على إنتاجهم الغذائي، ودفعهم بالإكراه نحو خانة التَبعية الاقتصادية للخارج.

كما يمكن القول إن دفع إسرائيل لوزارة الزراعة في غزة لاستيراد البذور خلال السنوات السابقة كان يهدف لتحقيق الهيمنة على الأراضي الفلسطينية وعرقلة الجهود الفلسطينية المبذولة للسيادة على عمليات إنتاج الغذاء بطريقة مدروسة عبر السماح بإدخال أصناف مخصصة من البذور المهجنة، والتي تتسم بصفات معينة لإبقاء قطاع غزة حقل تجارب للدول المنتجة للبذور، ولتسخير أموال القطاع والإنتاج النباتي لتغذية أرباح أصحاب الشركات الكبرى، وما سبق ذكره ينطبق على الأسمدة والمبيدات الكيماوية.

كما أن تجريد القطاع من مصادر الصمود الذاتية كان خطة ممنهجة ومدروسة ومعمول بها منذ 17 عامًا منذ بداية الحصار على قطاع غزة، وذلك لاستنزاف قدرات القطاع ومقوماته وجعله هشًّا إنتاجيًا، وبالتالي تجريده من كل سُبُل ومقومات الصمود الذاتي.

يُضاف إلى ذلك تعطيل إقامة أي مختبرات قادرة على فحص مدخلات الإنتاج الزراعي، أو حتى فحص صحة وسلامة التربة والمياه في قطاع غزة وقابليتها للزراعة.

ثالثًا: فصل شمال القطاع عن جنوبه خلال الحرب لإكمال تطبيق سياسة المجاعة:

يعيش في قطاع غزة 2 مليون و300 ألف فلسطيني ينتشرون في جميع محافظات القطاع، علمًا بأن مدينة غزة هي الأكثر ازدحامًا بالسكان بمعدل 5 آلاف نسمة في الكيلو متر المربع الواحد.

وتُعَد خان يونس وشمال القطاع سلةَ غزة من الخضار، وذلك لتوفر مساحة زراعية كبيرة جدًا مقارنة بالمحافظات الأخرى، إذ تبلغ مساحة الأراضي المزروعة في محافظة خان يونس 27 ألف و200 دونم، فيما تبلغ مساحتها في الشمال 24 ألف و100 دونم مزروعة من الخضار من إجمالي 85 ألف دونم مزورع في غزة.

وتتميز كل محافظة في غزة بزراعة محاصيل معينة وذلك لاختلاف الخواص الكيماوية للتربة والمياه، إذ تتميز محافظات الشمال بزرعة الفراولة والخيار والجزر والبطاطس والزعتر والمرمرية، أما خان يونس فتشتهر بزراعة البصل والطماطم والباذنجان والفلفل الحلو والحار.

وخلال فترة الحرب حرصت قوات الاحتلال على فصل شمال غزة عن جنوبها، ما أدى إلى حرمان سكان قطاع غزة من الوصول إلى التنوع الغذائي والمحصولي.

وخلال الـ 15 شهرًا من الحرب والتهجير، حَرَم تكدُّس السكان في جنوب وادي غزة، مع منْع وصول أي كميات من الخضار من الشمال، كثيرًا من السكان من الوصول إلى الغذاء وعدم كفاية العرض مقارنة بالطلب في أسواق الجنوب.

ولم تقنع قوات الاحتلال بذلك، بل دمرت أكثر من 80% من أراضي خان يونس المزروعة عقب اجتياحها، بالإضافة إلى الاستهداف المباشر لشركات مدخلات الإنتاج وتدميرها سواء بالشمال أو بالجنوب، فكانت النتيجة المباشرة لهذا العدوان حرمان سكان غزة من تغطية احتياجاتهم الغذائية.

رابعًا: تسعير الصراع بين أبناء شعب واحد:

لم تكتفِ إسرائيل بتعريض سكان غزة للتهجير والقتل الهمجي وحرمانهم من كافة سُبُل الحياة أثناء العدوان، بل تسببت في صراع بين أبناء القطاع الواحد مع اصطفائها لفئة معينة من التجار سمحت لهم بإدخال البضائع على حساب بقية التجار، وبالتالي مكَّنت إسرائيل المتعاونين معها من احتكار المنتجات الغذائية بشكل ساهم في ارتفاع أسعار السلع الغذائية من 5 إلى 10 أضعاف لسعرها الحقيقي، في ظل تلاعب قوات الاحتلال بإدخال المساعدات.

خامسًا: حرمان غزة من الأمن الغذائي بعد تدمير قدرتها على السيادة الغذائية:

يشير مفهوم الأمن الغذائي إلى حصول الأفراد (في جميع الأوقات) على كفايتهم من الغذاء المتكامل الذي يشمل كافة العناصر الغذائية من كربوهيدرات وبروتينات والمكملات الغذائية من فيتامينات من أجل حياة نشطة وصحية.

وهذا بالظبط ما بددته إسرائيل أثناء حربها على قطاع غزة، بعد منعها تدفق الغذاء على السكان إلا بشكل محدود جدًا وبدرجة لا تكفي لتوفير العناصر الأساسية للإفلات من الجوع، وبأسعار خرافية.

كما عملت بشكل موازٍ على حرمان السكان من أي مصادر ممكنة للدخل بعد قطع الرواتب والمعاشات عن الموظفين والعاملين في المؤسسات الدولية، وتوقف القطاع الخاص عن العمل، إلى جانب توقف عمل البنوك أصلًا، ما أدى إلى وصول عمولة السيولة إلى 35% مقابل الكاش، وبالتالي نفذت جريمة تجويع مروِّعة بحق السكان.

 قبل الحربخلال الحرب
الطحين45 شيكلًا 1000 شيكل
لحم العجول50 شيكلًا300 شيكل
لحم الخراف55 شيكلًا300شيكل
الدواجن15 شيكلًا 100 شيكل
البيض15 شيكلًا150 شيكلًا
الحليب البودرة10 شيكل70 شيكلًا
اللبن1 شيكل7 شيكل
التفاح3 شيكل50 شيكلًا
البرتقال3 شيكل30 شيكلًا
البطاطس2 شيكل50 شيكلًا
البصل2 شيكل100 شيكل
الخيار2 شيكل25 شيكلًا
الطماطم2 شيكل50 شيكلًا
الفراولة4 شيكل35 شيكلًا
أفوكادوا5 شيكل50 شيكلًا حال توفره
القهوة40 شيكلًا200 شيكل
      جدول يوضح الفجوة الهائلة بين الأسعار قبل وخلال فترة الحرب

يُعد تطبيق سياسة السيادة على الغذاء ونشر فكرة الزراعة الحضَرية وزراعة المدن وزراعة الأسطح والإنتاج الذاتي واستغلال كافة الموارد المتاحة وإعادة التدوير، بدائل مهمة لإنهاء سياسة تجويع سكان غزة، خصوصًا بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ منذ 19 يناير 2025.

ويعني مفهوم السيادة على الغذاء إنتاج الحد الأدنى من المنتجات الزراعية التي توفر غذاء صحي للإنسان باستخدام البدائل الطبيعة واستخدام السماد العضوي بمساعدة الحيوانات، وكذلك المكافحة الحيوية والعضوية بمساعدة كائنات المزرعة الطبيعية، مع استخدام البذور البلدية التي يحتفظ بها المزارعون، ذلك كله هو سبيل أهل غزة لمقاومة الوضع الراهن وتغييره.

سمر أحمد أبو صفيةفلسطين