«حتى عندما يهدم أحدهم عش طائر صغير، فإن الطائر يُحدث بعض الفوضى»
أحد الفلاحين الهنود في الإضراب العام للفلاحين الهنود. دلهي، ديسمبر 2020.
***
ما الذي يجعل بلدًا بحجم الهند غريبًا عن مسامعنا؟ حتى مع إضراب ما يقرب من ربع مليار شخص عن العمل في هذا البلد، والغزو الفلاحي لعاصمة البلاد، ما زال الأمر ملتبسًا. من هؤلاء؟ ولماذا يضربون عن العمل؟ وكيف يمكن أن يُضرب ربع مليار شخص عن العمل بدون ضجيج عالمي ملائم؟
حظى إضراب ومظاهرات الفلاحين المستمرة في العاصمة الهندية نيودلهي وفي عموم البلاد باهتمام إعلامي. لكن خلف هذا الاهتمام، هناك الكثير من التعقيد في الحالة الهندية. إذا صح لنا أن نصف الهند في كلمة واحدة فبالتأكيد سوف يكون «التعقيد» اللفظة الأدق لوصف هذا البلد الشاسع. لا يسهل على أحد دراسته أو بمعني أصح، قولبته في نماذج معاصرة. حتى الآن يواجه الناس صعوبات في توصيف الهند، الاقتصاد السادس على مستوى العالم، كبلد نامٍ.
هناك الكثير من التباينات في الهند. وراء ناطحات السحاب في بومباي على بحر العرب والصورة البراقة لنجوم السينما الهندية، هناك صورة أخرى مناقضة تمامًا في عموم هذا البلد الفقير الذي -رغم كل النمو الاقتصادي الذي حققه- ما زال ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر. هذا التباين بين العالم الجديد ذي ناطحات السحاب والعالم القديم في القرى الفقيرة، بين عالم المديرين التنفيذيين لكبرى شركات التكنولوجيا وملايين الفلاحين في هذا البلد الضخم، يظل أحد سمات هذا البلد.
كيف يمكن إذًا فهم ما يحدث في الهند حاليًا؟ لماذا يحتج الفلاحون الهنود؟ وكيف تشابهت مسارات التنمية الزراعية في مصر والهند؟ وما الذي يمكن أن نفهمه من تجارب الإصلاح النيوليبرالي للقطاع الزراعي في البلدين؟
في 26 أكتوبر الماضي، وفي ظل تفشي وباء كورونا في الهند التي سجلت ثاني أعلى معدل إصابات في العالم، بدأ إضراب عام في الهند وصفته وسائل الإعلام بأنه الأكبر في تاريخ البشرية (وهو رقم قياسي طالما حافظت عليه الهند). شارك فيه ما يقرب من 250 مليون عامل وفلاح، قبل أن يتحول لمظاهرات بدأت في الزحف نحو مدينة نيودلهي في نوفمبر. جاء الفلاحون من ولايتي البنجاب وهاريانا القريبتين من العاصمة.
بدأت الاحتجاجات بعد إقرار الحكومة الفيدرالية في الهند في أغسطس الماضي ثلاثة قوانين جديدة لتنظيم القطاع الزراعي. وخلال شهري أكتوبر ونوفمبر، أعلنت النقابات الفلاحية في عدد من الولايات الشمالية في الهند عن مسيرة إلى العاصمة. رفع الفلاحون الغاضبون، الذين تقدر أعدادهم بحوالي 150-250 ألف شعار «دلهي شالو»، أي «نحن قادمون يا دلهي»، واحتلوا خمسة طرق سريعة رئيسية مؤدية للعاصمة قبل أن تحاول قوات الشرطة الهندية تفريقهم ومنعهم من دخول العاصمة، واعتقلت عددًا من قادة المظاهرات. لكن في 26 نوفمبر الماضي، نجح هؤلاء الفلاحين في اختراق الحواجز الأمنية حول العاصمة باستخدام الجرارات الزراعية لكسر تلك الحواجز. بعدها نصبوا خيامًا ونظموا أنفسهم لاعتصام طويل من أجل إسقاط القوانين الثلاثة.
ما بدأ بمظاهرات مناطقية بالولايات الشمالية تحول إلى مظاهرات واسعة النطاق على مستوى الهند. أعربت أكثر من 450 نقابة ومنظمة للمزارعين عن دعمها للإضراب. كما اتسعت حدود التضامن مع الفلاحين ليشمل النقابات العمالية والمنظمات النسائية وبعض الفنانين (صدرت أكثر من 800 أغنية للتضامن مع الفلاحين في الشهور الأخيرة)، إلى جانب الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. كما اجتذبت الاحتجاجات دعم أحزاب معارضة وغيرها من الشخصيات العامة في الهند وحول العالم، من بينهم المغنية ريانا ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، وغيرهم.
لعقود طويلة، حاولت الحكومات الهندية المتعاقبة تطبيق إصلاحات جذرية في القطاع الزراعي، لأنها تريد أن تحول الزراعة لنشاط تصديري بالأساس. بالتالي، فتحت تلك الحكومات الباب أمام الشركات الأجنبية الزراعية في مجالات عدة. لكن، دائمًا ما لاقت تلك الشركات صعوبة في النفاذ والسيطرة على سوق بحجم الهند. أشهر أمثلة فشل اختراق السوق الهندي بسبب مقاومة الفلاحين حدثت مع «دانون»، عملاق صناعة الألبان في العالم، والتي فشلت في الحصول على حصة سوقية في بلد تعد أكبر مستهلك ومنتج للألبان في العالم.
بدأت قصة «دانون» في الهند عام 2011، حين قامت بفتح مصانع لها هناك، خاصة في ولاية «هاريانا»، للاستفادة من حجم السوق. ولكن، وبعد سلسلة من الخسائر، قررت الشركة في 2019 إغلاق مصانعها. السبب الواضح لذلك هو أن قطاع الألبان مُجزأ بشكل كبير. هناك ما يقرب من 75 مليون فلاح في الهند يربون الماشية من أجل إنتاج الألبان. ومعظم هؤلاء المزارعين سيدات يمتلكن رأسًا أو رأسين من الماشية من أجل توفير مصدر دخل إضافي للأسرة. ونتيجة لذلك الحجم الكبير للقطاع، فإن سوق التجزئة لمنتجات الألبان يصعب ضبطه أو السيطرة عليه من قبل الشركات الكبرى. فحوالي نصف إنتاج الألبان يتم استهلاكه على مستوى الأسرة أو العائلة الكبرى. والنصف الآخر معروض للتداول في أسواق محلية تنتشر في طول البلاد وعرضها.
السبب وراء فشل تجربة «دانون» في الهند يعود إلى هذه الطبيعة المجزئة للقطاع الزراعي في الهند (90% من مساحات الأراضي الزراعية هناك أقل من خمسة أفدنة)، والنظام المعقد الذي تعتمد عليه الهند لبيع وشراء المحاصيل من الفلاحين.
هناك اختلافات في هذا النظام بين الولايات الهندية المختلفة، لكن المبدأ العام له يعمل كالتالي. تعتمد الحكومات المحلية في الهند على التسويق الجماعي للمحاصيل من خلال أسواق محلية تسمي «المانديس Mandis». يورّد الفلاحون محاصيلهم لتلك الأسواق لتباع في مزادات للتجار. وتضع الحكومة سعرًا استرشاديًا يعرف بالحد الأدنى لسعر الدعم (Minimum Support Price) للمحاصيل الرئيسية (القمح والأرز والقطن وغيرها). يمثل هذا السعر الأدنى الذي تدفعه الحكومة عندما تشتري المحصول من المزارعين، ويُحدد من قبل لجنة التكاليف والأسعار الزراعية بوزارة الزراعة، التي تديرها الدولة، لأكثر من 22 سلعة على أساس سنوي وفقًا لعوامل عديدة مثل تكلفة الإنتاج، والتغير في أسعار المدخلات، واتجاهات أسعار السوق، والطلب والعرض، وهامش ربح معقول للمزارعين. هذا السعر يعمل أيضًا كسعر استرشادي للسلع فيما يشبه التسعيرة الإجبارية، بحيث لا تُباع المحاصيل بسعر أقل منه، كنوع من أنواع الحماية للفلاحين. لكن غالبًا ما يتحايل التجار الصغار في تلك الأسواق عبر تكوين تحالفات لإبخاس السعر، وعدم تجاوز السعر الاسترشادي في المزادات بكثير.
تحاول القوانين الثلاث التي وافقت عليها الحكومة الهندية إنهاء هذا النظام كليًا، لتخرج الدولة من السوق وتفتح الباب أمام الشركات المتوسطة الزراعية والشركات العالمية في المجال الزراعي بالتبعية للدخول لسوق تسويق الحاصلات الزراعية في الهند دون رقابة.
القوانين الثلاثة هي:
1-قانون تجارة المنتجات الزراعية (The Farmers’ Produce Trade and Commerce)، ويخلق كيانات موازية لأسواق المانديس لا تتمتع بأي رقابة حكومية على الأسعار فيها. هذا الوضع كان منتشرًا بشكل ما في بعض الولايات في الهند، لكن تقنينه يعني أن الحكومة الفيدرالية سوف تنسحب كليًا من تنظيم سوق تجارة المنتجات الزراعية.
2-قانون التمكين والحماية للمزارعين (Farmers Empowerment and Protection Agreement on Price Assurance)، ويخلق أطرًا جديدة للزراعة التعاقدية بين كبرى الشركات والفلاحين في الهند، تقلل الحكومة بموجبه من رقابتها على تلك العقود المبرمة بين الشركات والفلاحين، ما يتيح أن تدخل الشركات الكبرى بشكل أكبر في الزراعة التعاقدية وخاصة في المحاصيل التي لها أهمية كبيرة في السوق الدولية مثل القطن والتوابل وغيرها.
3-القانون الثالث، وهو تعديل على قانون سابق يسمي قانون الخدمات والسلع الزراعية الأساسية (Farm Services and The Essential Commodities)، ويلغي الحد الأقصى لتخزين كثير من المنتجات الزراعية، حيث يقضي بإزالة الحبوب والبقول والبذور الزيتية وزيت الطعام والبصل والبطاطس من قائمة السلع الأساسية. هذا الحد الأقصى كان يمنع تكوين مركز احتكاري، ويحافظ على سلاسة عرض المنتجات المختلفة في السوق، وبالتالي على الأسعار. تتحجج الحكومة أن هذا سيؤدي إلى إزالة مخاوف المستثمرين من القطاع الخاص، والمزيد من حرية السوق، خاصة في الإنتاج والنقل والتوزيع والعرض، مما يزيد من عائدات الفلاحين ومن الاستثمارات الخاصة في القطاع الزراعي. لكن هذا التعديل يعني عمليًا أنه يحق لتجار الحاصلات الزراعية والشركات تخزين المنتجات والتحكم في أسعارها في السوق.
عمليًا، تعني القوانين الثلاثة انسحاب الحكومة بشكل كبير من التدخل والرقابة على قطاع الزراعة وأسواقه. وبالنسبة للفلاحين، يعني هذا أنهم أصبحوا وحيدين في مواجهة الشركات الكبيرة. لهذا، بدأوا احتجاجهم الذي امتد لشهور حتى الآن.
يلاحظ رافكياس راوان، أستاذ الاقتصاد بمركز الدراسات الاقتصادية والتخطيط بجامعة «نهرو»، أنه ورغم ضخامة المظاهرات الحالية واتخاذها بعدًا قوميًا في بلد كبير مثل الهند، وعالميًا من خلال تضامن فلاحين في الولايات المتحدة وغيرها مع الحراك الهندي، إلا أنه لا يمكن إغفال الديناميكيات الطبقية وبنية الاقتصاد الزراعي الهندي داخل هذه المظاهرات. يلعب كبار ومتوسطي المزارعين، وهم الخاسر الأكبر من هذه القوانين الثلاثة لأنهم يعتمدون بشكل أساسي على التسويق من خلال المانديس وفتح الأسواق قد يؤثر سلبًا على أسعار المنتجات الزراعية ويعرضهم لاحتكارات كبرى الشركات العالمية ، دورًا محوريًا في هذا الحراك، بمشاركة الفلاحين الصغار أيضًا. في المقابل، يغيب عمال الزراعة والفلاحين الذين لا يمتلكون أرضًا، والمهمشين (الداليت) والذين يتم استغلالهم من كبار الفلاحين الكبار والمتوسطين في المظاهرات (رغم تضامن نقابات عمال وعاملات الزراعة).
ورغم محاولات الحكومة التقليل من أهمية المظاهرات ووصفها بأنها مظاهرات الفلاحين الشماليين الأغنياء، أو بأنها مظاهرات «السيخ»، إلا أن الزخم الكبير والتضامن الشعبي الواسع، أجبر الحكومة على الجلوس إلى مائدة المفاوضات مع النقابات الفلاحية في الهند أكثر من مرة. خلال خمسة شهور، جلست الحكومة مع النقابات في 11 جولة مفاوضات. آخر جولة كانت في 20 يناير الماضي، حين اقترحت الحكومة تعديلات على القوانين الثلاثة، ووافقت على تعليقها لمدة 18 شهرًا حتى يمكن إجراء مزيد من المناقشات. لكن، نقابات الفلاحين رفضت هذه التنازلات الواضحة باعتبارها حيلة لتفريق الاحتجاج، وطالبت بإسقاط القوانين الثلاثة دون مماطلة.
حين نقرأ الكلمات البراقة المنتقاة بعناية في وصف تلك القوانين في بيان الحكومة الهندية (من قبيل تمكين الفلاحين والتيسير عليهم)، نشعر أن رفض الفلاحين لمثل تلك القوانين غير مبرر، وأن القوانين بالفعل تخدم مصالح الفلاحين. لماذا إذًا يرفض ملايين الفلاحين في الهند الدخول إلى جنة السوق الحر التي تعدهم بها حكومة «ناريندرا مودي»؟
إصلاح السوق الزراعي كان دائمًا محل نقاش في الهند باعتباره جزء رئيسي من دمج الهند -ذلك الاقتصاد الكبير- أكثر فأكثر في السوق العالمي، وخاصة في منظومة الإنتاج الزراعي العالمية الخاضعة لقوانين كبرى الشركات الأوروبية والأمريكية.
لم تكن القوانين الثلاثة بداية هذا التحول النيوليبرالي. على مدار عقود، انسحبت الدولة تدريجيًا. انخفض الدعم الحكومي للمدخلات في القطاع الزراعي وارتفعت أسعار الأسمدة الزراعة والديزل والمحروقات. كما تمت الدعوة إلى التسويق المباشر وإخراج الدولة من عمليات تسويق المنتجات الزراعية بما يسمح بتطوير إدماج النظام الزراعي في السوق الرأسمالي، وتمكين القطاع الخاص من الاستثمار في القطاع الزراعي.
ونظرًا لتعقد نظام الحكم الهندي ولا مركزيته، فإن ذلك عطّل كثيرًا من إتمام التحول النيوليبرالي، بالمقارنة بتجارب دول أخرى كثيرة في الجنوب العالمي منذ تسعينيات القرن الماضي. ومع ذلك، منذ عام 2000، تبنت بعض الولايات إجراءات وقوانين تشجع شركات القطاع الخاص على التوغل في سوق الحاصلات الزراعية الهندي.
علي سبيل المثال، ألغت حكومة ولاية بيهار عام 2006 نظام أسواق المانديس، وأصبح مسموحًا للتجار بشراء السلع الزراعية مباشرة من المزارعين. لكن، دراسة حديثة أجراها المجلس الوطني الهندي للبحوث الاقتصادية التطبيقية (NCAER) عام 2019 أظهرت زيادة التقلبات في أسعار الحبوب الغذائية بالولاية. وخلص التقرير إلى أن المزارعين في ولاية بيهار تلقوا أسعارًا أقل للمواد الغذائية الحبوب مقارنة مع المزارعين في الولايات لم يطبق فيها الإلغاء.
ترى المنظمات الفلاحية الرافضة للقوانين أن إلغاء الحد الأدنى لسعر الدعم سيؤدي إلى القضاء على الحد الأدنى من الأمان الذي كانت تمثله تلك الأسعار. وسيلقي بالمزارعين في قبضة الشركات الكبيرة التي تسعى للحصول على سلاسل الإمداد الغذائي لشبكات البيع بالتجزئة الخاصة بها.
كما تجادل النقابات والجموع الفلاحية المناهضة للقوانين أنها تفتح المجال لإنهاء جميع الإجراءات التي تحمي الفلاحين من الخضوع لرغبات التجار، وتقلص دور نقابات الفلاحين في التفاوض للحصول على أسعار عادلة للمحاصيل، وتدعم الاحتكارات. ويخشى العديد من المزارعين أن تؤدي التغييرات في النهاية إلى انخفاض أسعار المحاصيل، وتدمير سبل عيشهم.
كما يؤدي التعديل الثالث (إزالة بعض المحاصيل الزراعية من قائمة السلع الأساسية) إلى زيادة هيمنة السوق على أسعار السلع الرئيسية، وتمكين القطاع الخاص من تحقيق مكاسب أكبر عبر التخزين، ورفع أسعار السلع الأساسية دون القيود التي كانت مفروضة مسبقًا. ونظرًا لانتشار الفقر في الريف، (36.8% من الهنود في الريف فقراء مقابل 9.2% في المناطق الحضرية)، تصبح المخاوف من تفاقم مشكلات الفقر والجوع من جراء حدوث ارتفاع في أسعار السلع الغذائية نتيجة هذا التعديل حقيقية، خصوصًا في بلد عانى لسنوات طويلة من مجاعات.
فلاحو مصر مروا من هنا
ما يحدث في الهند مهم لنا، لأن مصر كانت سباقة في تطبيق تحولات نيوليبرالية سريعة في القطاع الزراعي. فلاحو الهند اليوم يواجهون ما واجهه الفلاحون في مصر منذ منتصف الثمانينيات، حين بدأت الدولة المصرية في تطبيق سياسات تحرر اقتصادي لتنسحب من دعم الزراعة بالوادي والدلتا. نُفذت هذه السياسات عبر حزمة من القوانين والقرارات الوزارية التي تم تمريرها خلال الأربعة عقود الماضية واشتملت على:
- تحرير السياسة السعرية والتوريد الإجبارى: بدأ ذلك تدريجيًا في 1987 عبر تحرير التسويق وإلغاء التوريد والتسعير الإجباريين لمحاصيل القمح والذرة الشامية والفول السوداني والفول البلدي والسمسم والفول الصويا والبصل. ثم أضيفت محاصيل القطن والأرز عامي 1990 و1994 على التوالي، ولم يتبق سوى القصب الخاضع للتسعير والتوريد الإجباري لمصانع الدولة.
- تحرير سوق مستلزمات الإنتاج وإلغاء دعمها: سُمح للقطاع الخاص بالإتجار في مستلزمات الإنتاج واستيراد الأسمدة بحلول 1998. كما ألُغي الدعم على الأسمدة ابتداءً من عام 1997. وزادت أسعار الأسمدة والمبيدات الزراعية بشكل كبير من جراء تلك الإجراءات.
- تحرير الإيجارات الزراعية عبر قانون 96 لسنة 1992: كان هذا القانون حاسمًا فى التحول الليبرالي فى الزراعة الفلاحية، إذ أنهى أهم جوانب قوانين الإصلاح الزراعى الناصرية: الأمان الإيجاري. ففي 1992، وافق البرلمان المصري على قانون «تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية»، والذي تضمن زيادة القيمة الإيجارية من سبعة أضعاف الضريبة السارية على الأطيان الزراعية إلى 22 ضعف خلال فترة انتقالية تبلغ خمس سنوات انتهت فى أول أكتوبر 1997، لتتحرر العلاقة الإيجارية تمامًا. بعد ذلك، تُركت الحرية للسوق لتحديد قيمة الإيجار. ومنذ إخضاع الإيجارات الزراعية إلى قوى السوق، ارتفعت الإيجارات الزراعية سنويًا بوتيرة متسارعة.
خلال العقود الماضية شكَّل الريف المصري «معمل تجارب» للسياسات النيوليبرالية في القطاع الزراعي. نتج عن ذلك إفقار الفلاحين بدرجة كبيرة. وفي المقابل، لم تتمكن هذه السياسات من علاج التشوهات الرئيسية في القطاع الزراعي المصري. وحتى محاولات تجميع الإنتاج الزراعي في مزارع كبيرة لم تفلح سوى في الأراضي الجديدة. وظلت ملايين الفلاحين الفقراء يزرعون مساحات صغيرة لا تكفي لتغطية دخولهم الأساسية، ما حوّل الزراعة بدورها مع الوقت لعمل إضافي بالنسبة للفلاحين. كان انسحاب الدولة من القطاع الزراعي في مصر سواء من خلال تقليل رقابتها على أسعار تأجير الأراضي، أو إنهاء الدورة الزراعية وتراجعها عن دعم مدخلات الإنتاج الزراعي، سببًا رئيسيًا في فقر فلاحي مصر، وتحول الفقر في مصر إلى ظاهرة ريفية بامتياز، وخاصة في الصعيد.
في مصر، كما في الهند، لم تعد الزراعة عملية مربحة اقتصاديًا للفلاحين الصغار. حوالي نصف الفلاحين الهنود الآن مديونون بسبب الأنشطة الزراعية. ذلك التوسع الذي شجعته الحكومة الهندية في إقراض الفلاحين الصغار من أجل شراء الأسمدة ومستلزمات الإنتاج مرتفعة الثمن، كان سببًا في آلاف حالات الانتحار في المجتمعات الزراعية في الهند بسبب التخلف عن سداد الديون للمقرضين. منذ 2013، هناك في المتوسط 12 ألف حالة انتحار بين الفلاحين والعمال الزراعيين بسبب الديون، بحسب إحصاءات رسمية هندية.
ورغم اختلافات حجم الإنتاج الزراعي، وطبيعة تنظيم علاقات الإنتاج، ونظام الحكم بين البلدين، إلا أن هناك بعض ملامح التشابه بين مصر والهند. في الهند، والتي تمتلك قطاعًا زراعيًا كبيرًا جدًا، يعيش تقريبًا نصف القوة العاملة في البلاد على مصادر دخل مرتبطة بالقطاع الزراعي. لا يزال 46% من القوة العاملة تعمل بدوام كامل في الزراعة. وتمثل الزراعة النشاط الأساسي لحوالي 70% من سكان الريف. كما أن الحيازات الصغيرة ومتناهية الصغر تشكل ما يقرب من 90% من إجمالي الحيازات الزراعية في الهند، بحسب التعداد السكاني لعام 2011. وتسهم الزراعة بحوالي 17.5% من الناتج المحلي الإجمالي بالهند.
وفي مصر، وفقًا لتعداد 2017، يعيش حوالي 58% من سكان البلاد في الريف. ويعمل 70% من السكان النشطين اقتصاديًا في المناطق الريفية في الزراعة بدوام جزئي أو بدوام كامل. كما تمثل الزراعة 11.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016، وتغطي 63% من الاحتياجات الغذائية الوطنية و25% من القوى العاملة في البلاد، بحسب نشرة الإحصاءات الزراعية في 2016.
يتشارك البلدان كذلك في تراجع الأهمية النسبية للقطاع الزراعي. في الهند، تراجعت الأهميته النسبية في الاقتصاد من 41% من الناتج المحلي في 1960 إلى 16% فقط الآن. وفي مصر، انخفضت حصة الزراعة من الناتج المحلي من 27% في بداية الستينيات إلى ما يقارب 11% حاليًا، مع احتفاظ القطاع الزراعي في البلدين بعمالة كبيرة نسبيًا.
المشكلة ليست تراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي، لأن هذه نتيجة طبيعية للنمو الاقتصادي خاصة في قطاع الخدمات والصناعة. ولكن المشكلة هي تدهور سبل عيش ملايين المواطنين المرتبطين بقطاع زراعي مهمش.الإحصائيات المذكورة سابقًا تعني أن نصف قوة العمل في الهند تعتمد على 16% فقط من الناتج المحلي السنوي في هذا البلد الضخم. وتتشابه المشكلة تمامًا في مصر. في الوقت الذي تسبب فائض العمالة في القطاع الزراعي في مصر والهند في تفاقم الفقر الريفي وتعميق بنية اللامساواة في البلدين، فإن الدولتين اللتين خاضتا تجربتين تنموية مشابهة في الستينيات (الانتقال نحو التنمية الصناعية وما يصحبها من توسع لاحق في قطاع الخدمات) لم تتمكن مدنها من استيعاب فائض العمالة الموجود في القطاع الزراعي، ناهيك عن فائض السكان في الريف، والذي نزح في هجرات متكررة من الريف نحو المدينة في البلدين.
لكن، في الهند كان للفلاحين فرصة لمقاومة تلك السياسات النيوليبرالية في أحيان كثيرة. ففي النهاية، الهند بلد فيدرالي ذو ديمقراطية برلمانية، والكل يخاف من عقاب الشعب الانتخابي. تلك الديمقراطية تسمح بتأسيس منظمات فلاحية وتتيح قدرًا كبيرًا من التنظيم والقدرة على التفاوض للوصول إلى حلول وسط. في الهند يوجد أكثر من ألف منظمة نقابية كبيرة للفلاحين، ويلعب كثير منها أدوارًا هامة في الاحتجاجات ضد قوانين الزراعة الجديدة.
أما في مصر، ذات الطبيعة المركزية في كل شيء، بدايةً من السلطة السياسية المركزة والديكتاتورية التي لا تتيح أي قدر من حرية التنظيم، قُتلت مقاومة الفلاحين لتلك النيوليبرالية في مهدها.
منذ أسابيع قليلة، وعلى خلفية تدهور سبل عيش الفلاحين في مصر، أعلن رئيس النقابة العامة للفلاحين (وهي نقابة الفلاحين الوحيدة المسموح لها بالعمل في مصر) تجميد نشاط النقابة نظرًا لتهميش الحكومة للفلاحين. ولا تزال أزمة انخفاض أسعار المحاصيل الغذائية مثل الطماطم والبطاطس والخيار مستمرة، حيث اضطر بعض الفلاحين لبيع البطاطس لمصانع العلف أو إتلاف المحاصيل أو حرثها بالأرض لتقليل الخسائر الفادحة التي تعرضوا لها نتيجة انهيار الأسعار. ولذلك، فإن دفاع الفلاحين في الهند عن الحد الأدنى لسعر الدعم (MSP) لجميع المحاصيل الأساسية كحق قانوني للمزارعين، مما يضمن حماية الفلاحين الصغار من تقلب الأسعار ويضمن استقرار نسبي للسلع الرئيسية ويقلص من احتكار التجار ويعيد توزيع عائدات الزراعية بشكل أكثر عدالة بين الفلاحين والتجار ويزيد من شفافية أسعار المستهلكين، قد يكون أيضًا مطلبًا مشروعًا للفلاحين في مصر.
صقر النور – محمد رمضان