أثارت جائحة كوفيد 19 نقاشًا واسِع النّطاق حوْل ماهية المُستقبل الذي ينبغي أن نتطلّع إليه بعد تجاوز الأزمة. ومن المسائل الاقتصادية التي شهدت نقاشات حامية الوطيس: النظام الغذائي العالميّ. تُركّز هذه الورقة على كيفية كشْفِ الجائحة لِهشاشة المنظومة العالمية للإمدادات الغِذائية، التي تُسيطر عليها الشّركات، كما تُظهِر أنّها ليست جُزْءًا من الحلّ بعكس ما ترى منظّمة الأغذية والزراعة والوكالات المُتحالفة معها.
تُوصي الدّراسة على المدى القصير بعدم تعطيل التجارة العالمية حتى لا يُؤدّي ذلك إلى انتشار الجوع وسوء التغذيّة. فيما ترى أنّه من المُهمّ البدءُ، بموازاة ذلك، في تحويلٍ استراتيجي للمنظومة العالميّة لإنتاج الغذاء بكيفيّة مُصمَّمَة لتحقيقِ الاكتفاء الذاتي والسيادة الغذائية.
فضْلًا عن ذلك، تشير الدراسة الى الحاجة العاجلة لأنْ يتمفصل هذا المسار التحويليّ مع بدائلَ تقدُميّة أُخرى تسعى لتجاوز ما نجَمَ عن المنظومة الرأسمالية العالميّة من لا مساواة ونزاعات وتنمية غير متكافئة وزعزعة للتوازن الإيكولوجي.
الأزمة كفُرْصة
كاستجابة للكارثة التي سبّبها كوفيد 19 برَزت ثلاثة اتّجاهات للتفكير يعْتبِرُ الاتّجاه الأوّل أنّ الأوضاع الطارئة تستوجب إجراءات استثنائية، لكنّه يعتبر أنّ البُنْيَة الأساسية للإنتاج والاستهلاك سليمة فيما تكمُن المشكلة في تحديد اللحظة المناسبة لعودة الأمور إلى الوضع “العادي”.يقول أحدُهم أنّ هذا هو الرأي السائد بين النخب الحكوميّة والاقتصاديّة. اذ يعكسُ ما جرى تداوله في المؤتمر عن بُعد الذي موّلته مؤسسة جولدمان ساكس، سيئة الصيت، في منتصف مارس المُنقضي. وقد عرَض خلاله فاعلين بسوق الأوراق الماليّة نتائجهم وتوقّعاتهم ليخلِصوا إلى أنّه “لا وجود لتهديدٍ نسقِيٍّ. لا أحد يتحدث عن ذلك أصلًا. تتدخل الحكومات في الأسواق لضمان استقرارها، فيما يحظى القطاع البنكي الخاصّ بتمويلِ جيّد. يبدو الوضعُ إذنْ أشبه بـ 11 سبتمبر منه بـ 2008.”
يَعتبر اتجّاه التفكير الثاني أنّنا الآن في وضعِ “العادي الجديد”: فرَغْم أنّ النظام الاقتصادي العالمي في حالة جيّدة أساسًا، إلّا أنّه يجب إحداثُ تغييراتٍ على بعض جوانبه، كإعادة تصميم مواقع العمل حتّى تُلائم ضرورات التباعد الجسدي.
تَذهبُ الإستجابة الثالثة إلى اعتبار أنّ هذه الجائحة تُوفّر فرصةً لتحويل نظامٍ مُثقلٍ بالحيْف الاقتصادي والسياسي ومُهدِّدٍ بعمقٍ للتوازن البيئي. لا ينبغي أن نتكيّف مع “العادي الجديد”، بل علينا خلقُ نظامٍ جديد. في بلدان الشمال، كثيرا ما يرتبط التحوّل الضروري بالدفع نحو “صفقةٍ جديدةٍ خضراء”.
أمّا في بلدان الجنوب، فيتمّ التشديد على الفرصة التي تتيحها الجائحة لمعالجة أوجه اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. يعكسُ هذا التوجّه “بيان اشتراكي من أجل الفليبين ما بعد كوفيد 19” لِائتلاف “كفاح الجماهير”، حيث نقرأ:
تُثبِت طريقة واضطراب استجابات الفاعلين المُهيْمنين حيال الأزمة، ودون أدنى مجالٍ للشّك، أنّه لم يعُد بوسع الطبقات الحاكمة ترميم النظام القديم ولا أن تُدير المجتمع بنفس الأسلوب البالي. ورغم الفوضى وضبابية المشهد والمخاوف والأجواء الكئيبة والموحِشة الناجمة عن كوفيد 19، إلّا أنّ هذه الأزمة حُبلى كذلك بفرصٍ وتحديّاتٍ واعدة لتطوير نمطٍ جديد لتنظيم وإدارة المجتمع، وتقديمه للناس. بما في ذلك من مكوّنات سياسية واقتصادية واجتماعيّة تصاحب هذا النمط. فكما أشار الاشتراكي ألبرت أينشتاين: ” لا يُمكِننا حلّ مشاكلنا باعتماد نفس آلية التفكير التي خلقناها بها.”
اتّساقًا مع اتجّاه التفكير الثالث، لدينا دعوات واقتراحات لاستخدام أزمة كوفيد 19 كقاعدة انطلاق لمعالجة مُختلف أبعاد نظام الغذاء العالمي.
في مُداخلتها المختصرة والرائعة والشاملة عن الأضرار الهائلة التي ألحقها كوفيد 19 بالاقتصاد العالمي، خلال ندوة نظّمها المعهد الدولي عبر الإنترنت في 2 أفريل 2020، تكهّنت جاياتي غوش، أستاذة الاقتصاد البارزة من جامعة جواهر لآل نهرو، بِأنَّ هذه الجائحة “يمكنها أن تجعل المزيد من الناس أكثر وعيًا بالحاجة إلى تغيير طريقة عيشنا وإنتاجنا واستهلاكنا، قبل فوات الأوان.
ستقع مُساءلةُ بعض الجوانب الأقلّ عقلانية في سلاسل إمداد الغذاء العالمية، خاصة تلك المتعلقة بصناعة الأغذية للشركات متعددة الجنسيات (التي تُشجّعُ على شحنِ ما أنتِجَ بأحد أطراف العالم إلى طرفه الآخر حتى يقع معالجتها، قبل أنْ تُعادَ للاستهلاك في مناطق قريبة من مكان إنتاجها الأصليّ)، ومن المُحْتمَلِ أن تتراجع قيمتها.”لا يملك المرء سوى أن يتّفق مع البروفيسور غوش على أنّ سلسلة الغذاء العالمية غير عقلانيّة وأنه ستتمّ – وهذا يحصل بعدُ – مساءلتُها. ومع ذلك، فإنّ لا عقلانيّتها لا تَضمن أن تتوقّف القوى التي تدعمها عن ذلك، حتى في مواجهة حدثٍ مُدَمِّرٍ كجائحة كوفيد19.
المقال أعلاه مأخود من دراسة : جائحة كوفيد 19 وامكانيّة تحقيق السّيادة الغذائية
لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا