يكشفُ تعليق الفاو حول الحظر الذي فرضته روزاريو عن بُقعَةٍ مُعْتِمَةٍ. اذْ يُصوّر السلطات البلديّة المُحتَجَّة كما لوْ كانت أنانيّة. ولكن ما لا تراه المُنظمة هو أنّ السفن والطائرات المُحمَّلَة بإمدادات الغذاء تحوّلت بدورها، كما المسافرين جوًّا، إلى أحد ناقلي المرض الأكثر فعاليّة على مسافاتٍ طويلة. وعليه فإنّ إجراءات الحظر تلكَ كانت جدُّ مفهومةٍ.
إلّا أنّ المُشكلة الأكبر تكمُن في عدم قدرة الفاو، وباقي الوكالات مُتعدّدة الأطراف، على تقبُّل حقيقة أنّ سلسلة إمداد الغذاء العالمية تُساهم في، وتُوَسّعُ، الإخفاق الذريع في التصدّي لكوفيد – 19. أدّى التخلّي عن منظومات إنتاج الغذاء محلّيًا واقليميًا والمسّ بالاكتفاء الذاتي الغذائي للبلدان إلى جعل العديد منها أكثر هشاشةً وعُرضَةً لِلجوع الناجم عن الأوبئة وغيرها من حالات الطوارئ.
نشَبت أزمة 2007-2008 كنتيجَةٍ لجملة من التطوّرات، من بينها المضاربة المالية على السلع وتحويل الأراضي إلى زراعة الوقود الحيوي. الّا أنّ هذه المسبّبات قصيرة الأمد لم تكُن لتُفضيَ إلى أزمة عالميّة لولا توفّر الظروف البُنيويّة المهيّئة لها. وعلى رأس هذه الظروف عولمة الزراعة الصناعية الرأسمالية من خلال إنشاء عمليّة إنتاج قائمة على “إلغاء خصوصيّات الزمان والمكان في كُلٍ من الزراعة والنُظُم الغذائية”، على حد تعبير هارييت فريدمان.
“تَفصِلُ رؤوس أموال الصناعة الزراعيّة عبْر القوميّة، بوتيرَةٍ أسرعَ وأعمَقَ من ذي قبل، الإنتاج عن الاستهلاك وتعيد ربطهما من خلال البيع والشراء. لقد خلقوا قطاعًا اقتصاديًا مُنتِجًا ومندمجًا على مستوى العالَم، وتمَّ من خلاله إدماجُ أو تهميش شعوب العالم الثالث – كلاهُما في آنٍ معًا بأغلب الحالات- كمستهلِكين ومُنتِجين”.
عِوَض أن تؤدّي أزمة 2007-2008 إلى طرح تساؤلات جديّة حول مَتانة ومرونة سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية، تمطَّطَت هذه السلسلةُ أكثَر فَأكثَرَ وازدادَت المنظومات الغذائية المحلية والإقليمية ضُعفًا على ضُعف. تُقدّرُ الفاو أنّ قيمة التجارة العالميّة بالزراعة تضاعَفت أكثر من ثلاث مرّات، لتبلُغَ حوالي 1.6 تريليون دولار أمريكي بين سنتيْ 2000 و2016.
وبحسب جان شاؤول، فإنّ “حوالَيْ 20 بالمائة من السعرات الحراريّة التي يتناولها الناس – مثل الأرز والصويا والحبوب والقمح – تعُبر حدودًا دُوَلية واحدة على الأقلّ، بزيادة تفوق 50 بالمائة منذ سنة 1980، عِلمًا وأنّ ثلث غذاء العالم يأتي من بلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل.”
أكثر من أيّ وقت مضى، تراجَعَت الأنظمة الغذائية المحلية والإقليمية التي كانت توفِّرُ معظم الإنتاج والاستهلاك الغذائي الداخلي، في ظلّ السلاسل الحديثة لتوريد الأغذية (التي تُهيمن عليها شركات التصنيع الكبيرة ومحلات السوبر ماركت، كثيفةُ رأس المال، وتتّسم بأنشطة ذات قوّة عمَل منخفضة نسبيًا) التي تُشكِّل حوالي 30٪ إلى 50٪ من المنظومات الغذائية في الصين وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، و20٪ بإفريقيا وجنوب آسيا.
يُظهر جُلُّ الأدلّة أنّ المستثمرين الأجانب وكبرى شركات الأغذية ونُخب البلدان النامية هم من يجْنون المكاسب المتأتّية من التجارة الزراعية ذات “المعايير الفائقة”، التي تعزّزها سلاسل القيمة؛ فيما تفرض الأخيرة رقابةً صارمةً على الجودة حيال المنتِجين المحلّيين.
تقوم شركات الصناعة الزراعية الكبيرة والشركات الغذائية متعدّدة الجنسيات، من خلال الاندماج العمودي والتحكّم بالجزء العلوي من سلسلة الصادرات، بتعزيز قوّتها التفاوضية. وهو ما ينقلُ سلطة اتخاذ القرار من المُزارعين إلى هذه الشركات بآخر السلسلة. كما يوسّع من قُدراتها على استخلاص الريْع من هذه السلسلة على حساب مصلحة صغار المُزوّدين المُتعاقدين معها. ويحصل ذلك بوجه خاصّ حيثُ تتجاوَرُ المزارع الكبيرة وصِغار الفلاحين، “اذ من المُرجّح استبعاد صغار الفلاحين” من عمليّة تزويد كبار المشتَرين .
باختصار، يجدُ الفلاّح الصغير نفسه مُحاصرًا على جميع المستويات تقريبًا، من الإنتاج إلى التمويل، إلى الالتزام بمعايير الصحّة والسلامة النباتية. يصبُّ كلُّ ذلك في مصلحة شركات الزراعة، بما تشملُه من كبار الباعَة والمزوّدين والوُسطاء.
لخّصَت مؤسسة بحثيّة ليبرالية مشهورة معضلة الفلاحين الصغار بالتّالي: “تُسيطر كبرى الفضاءات التجارية وشركات التوزيع ومعالجة الأغذية، والمصدّرين الزراعيّين على أسواق الزراعة الغذائيّة مُطَّرِدَةُ اللبْرَلَة والتعوْلُم. يُدْخل هؤلاء وينشرون معايير سلامة وجودة الغذاء التي يعجز العديد من صغار الفلاّحين على الالتزام بها. تؤدّي هذه التطوّرات إلى مزيد سحب الميزة التنافسية من صغار المزارعين نحو كبار المنتجين”.
غالبًا ما يكون المستثمرون الأجانب في طليعة “ثورة” سلسلة الإمدادات الغذائية التي يروّج لها النيوليبراليون (بعض استثماراتهم هي مُجرّد استيلاءٍ سيّء التنكُّر على الأراضي). غيْر أنّ عمليّاتهم، كما تُبرز نفس المؤسّسة البحثية في حالة إفريقيا، تَحمِلُ “مخاطرًا مُحتمَلة، منها التدهور المُبرَمُ للموارد الطبيعية؛ تشريد صغار المزارعين على يد المَزَارع الشاسعة ذات الرأسمال الكبير؛ وتزايد انعدام الأمن الغذائي المحلّي بسبب زيادة الصادرات الغذائية”
المقال أعلاه مأخود من دراسة : جائحة كوفيد 19 وامكانيّة تحقيق السّيادة الغذائية
للباحث الفليبيني والدن بيلو
لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا