خيارات الأنظمة بشمال أفريقيا وانتفاضات الخبز



“الخبز”! أشعلَ من الانتفاضات بمنطقة شمال أفريقيا قدر ما أشعل سائر العوامل، أو بالأحرى بتضافر مع العوامل الأخرى. فقد أدت قرارات إلغاء الدعم وزيادة أسعار مواد الغذاء الأساسية إلى انطلاق انتفاضات عارمة قُمِعت بشدة، كان أهمها:

  • مصر: “انتفاضة الخبز” في 18 يناير 1977، ونعتها الرئيس أنور السادات بـ”انتفاضة الحرامية”.
  • تونس: أواخر ديسمبر 1983 مطلع يناير 1984
  • الجزائر: انتفاضة بمدينتي قسنطينة وسطيف سنة 1986، تلتها بعد سنتين انتفاضة 5 أكتوبر 1988.
  • المغرب: انتفاضة 20 يونيو 1981، ونعت وزير الداخلية آنذاك قتلاها بـ “شهداء كوميرة” (أي الخبز، بنبرة احتقار). ثم انتفاضة 19 يناير 1984، وكانت معظم بؤرها بمدن الشمال، وقد نعت الحسن الثاني متظاهريها بـ”الأوباش”. ثم انتفاضة 10 ديسمبر 1990 التي كانت مدينة فاس مسرحها الرئيس.

جاءت هذه الانتفاضات في سياق تدخل صندوق النقد الدولي لـ”تصحيح الأوضاع الاقتصادية” بعد أزمة الديون المتفجرة نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، عبر ما أُطلِق عليه “برامج التقويم الهيكلي”.

“في الثمانينيات والتسعينيات، أدى التطبيق المنهجي لبرامج التقويم الهيكلي في بلدان الجنوب… إلى مفاقمة الأوضاع المعيشية الصعبة أصلا لجزء كبير من سكان هذه البلدان. يكمن محور الاهتمام الرئيسي لهذه البرامج في إخضاع اقتصاد البلد لسداد الديون من خلال تطبيق مبدأ “تصدير أكثر وإنفاق أقل”. تتجلى التدابير الصادمة المفروضة بموجب هذه البرامج في إجبار حكومات الجنوب على سحب دعم السلع الأساسية مثل الخبز والأرز والحليب والسكر… لقد جرى فرض خفض قيمة العملة الوطنية وجعل المنتجات أرخص للتصدير والحد من القدرة الشرائية للسكان المحليين، وتمت زيادة أسعار الفائدة من أجل جذب الرأسمال الأجنبي، وتولدت دوامة مضاربة”.

وكان ضمن الإجراءات الهيكلية “برنامج التقويم الفلاحي” وعنوانه الرئيس تشجيع الفلاحة التصديرية والاهتمام بالمنتَجات ذات القدرة التنافسية في السوق العالمية لجلب المزيد من العملة الصعبة قصد استعادة القدرة على سداد الديون. ورافقت ذلك جملةُ تدابير أخرى منها خصخصة الأراضي العمومية (التعاضديات في تونس، التعاونيات في مصر والجزائر، أراضي شركتي صوديا وسوجيتا بالمغرب)، إضافة إلى تخلي الدولة عن خدمات الدعم (الزراعي والبيطري) ونقلها إلى القطاع الخاص: “المُدخلات” من بذور وتلقيح وخدمات مياه السقي… إلخ.

تواصلت هذه السياسة طيلة عقد تسعينات القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، وتعمقت سياسة التحرير [اللبرلة] بانضمام دول شمال أفريقيا إلى منظمة التجارة العالمية [باستثناء الجزائر لحدود الآن]. وتقوم سياسة هذه البلدان على تشجيع الأقطاب الفلاحية الكبرى القائمة على الشركات الضخمة، وحفز الاستثمار الأجنبي، ومواصلة السياسة التصديرية، والاعتماد على الاستيراد لتزويد السوق المحلية بالمواد الغذاء ومدخلات الإنتاج.

ماذا كانت نتيجة هذا الخيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟

تَوجه اهتمام الدول إلى قطاعات الصناعات الاستخراجية؛ “إذ تمثل الجزائر ثالث أكبر ممون لأوروبا بالغاز، بينما تقوم تونس والمغرب بدور هام في إنتاج الفوسفاط المستعمل سمادا زراعيا ولتغذية الفلاحة الرأسمالية العالمية” هذا فضلا عن قطاع السياحة والصناعات التحويلية الخفيفة، في حين جرى إهمال الأرياف والفلاحة المعاشية عكس فلاحة جلب العملة الصعبة. وكانت النتيجة إفقارا شبه مطلق للأرياف، ونزوحا جماعيا لسكانها الى المدن، فتضخم عدد سكانها بينما تقلص عدد مُنتْجي الغذاء، وهو ما سجله آدم هنية في كتابه القيم “جذور الغضب: “إن نسبة السكان المشتغلين بالزراعة قد تراجعت بوضوح بالتزامن مع تدفقات الهجرة الداخلية هذه. ولا تقتصر الظاهرة على كونها بسبب النمو الحضري (فمن 1985 إلى 2010 تراجعت أعداد من يعملون في الزراعة أسرع بكثير من التراجع في نسبة سكان الريف). فهذا التوجه يشير إلى تغير ملحوظ في طبيعة الحياة الريفية. إذ أن أعداد أقل من سكان الريف أصبح بإمكانهم التعيش من الزراعة، وسعوا إلى أشكال بديلة من العمل (في بعض الحالات من خلال الانتقال يوميا إلى مصانع أو بلدات قريبة)”.

تدهورت الفلاحة المعاشية والإنتاج المحلي للغذاء، وتعمقت التبعية الغذائية، فيما يخص استيراد الغذاء ووسائل إنتاجه وعناصرها على السواء؛ وتواصل استيلاء الرأسمال المحلي والأجنبي على الأرض والماء والبذور، وجرى رَبْطُ أسعارِ الغذاء بالسوق العالمية.

تجلت خطورة هذه السياسة أثناء أزمة الغذاء العالمية لسنتي 2007- 2008، التي اعتُبِرت على نطاق واسع أحد الأسباب الرئيسة لموجة الانتفاضات المنطلقة من تونس نهاية ديسمبر 2010 ومستهل يناير 2011. فـ”ليس من باب الصدفة أن انطلاق انتفاضة 2010- 2011 التونسية من جهة فلاحية مفقَّرة (سيدي بوزيد)، ازدهر فيها رأس مال مضارب وزراعة تجارية. كما لم يكن تفصيلا ثانويا أن الحدث- الشرارة لاندلاع الانتفاضات العربية، كان إحراق بائع الغلال المتجول محمد البوعزيزي لنفسه”. كما تَقدم الخبز بقية مطالب الثورة المصرية: “عِيشْ، حرية، عدالة اجتماعية”.

تفسر جين هاريغان، مؤلفة كتاب “الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في الدول العربية” سلسلةَ الانتفاضات العربية قائلة: “على الرغم من أن الربيع العربي كان- أولا قبل كل شيء- حركة سياسية للتخلص من الأنظمة القمعية غير الديمقراطية، فقد كانت له أيضا أُسسٌ اجتماعية واقتصادية مهمة تمثلت في شكل تضخم أسعار الغذاء، فضلا عن ارتفاع مستويات البطالة وزيادة أوجه عدم المساواة”.

طبعا، لم تجبر أزمة الغذاء العالمية 2007- 2008 الدول على تغيير الاتجاه، بل حثتها على الإبحار بنفس البوصلة المُيَمِّمَةُ إبرتُها صوب مؤسسات بريون وودز بواشنطن. فـ”البرنامج الطارئ للأمن الغذائي العربي” الصادر عن القمة الاقتصادية والإنمائية والاجتماعية العربية بالكويت سنة 2009 اعتمد نفس الاستراتيجية. رغم انطلاقه من تقييمٍ لأصل الأزمة مفادُه: “إن حالة عدم الاستقرار التي تتسم بها الأسواق العالمية للسلع الغذائية، وتذبذب أسعارها، وتزايد استخدام المحاصيل من قِبل بعض الدول المتقدمة لإنتاج الوقود الحيوي، تعرض المنطقة للمخاطر، ولها تداعياتها على الأمن الغذائي العربي على المديين القصير والطويل، خصوصا في ظل تزايد الفجوة الغذائية العربية ومحدودية الاستثمار في المشروعات التكاملية الزراعية العربية”، إلا أن توصياته ومشاريعه لم تذهب عكس ذلك بل كرسته: المزيد من الفلاحة التصديرية والمزيد من استيراد الغذاء، والاستحواذ على الأراضي واستغلال العمالة العربية من طرف دول الخليج بالخصوص.

وفي نفس السياق، اعتبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الانتفاضات التي هزت المنطقة، فرصة لتعميق تنفيذ سياساتهما النيوليبرالية. كان الدرس الذي استقته هاتين المؤسستين، حسب جلبير الأشقر: “هو أن كل هذا حدث لأن وصفاتهم النيوليبرالية لم يجرِ تطبيقها بشكل كافٍ! وفسرا الأزمة بعدم كفاية تفكيك بقايا اقتصادات رأسمالية الدولة السابقة. وأشارا إلى أن الحل هو إنهاء جميع أشكال الدعم الاجتماعي، بشكل أكثر جذرية مما حدث بالفعل”. وهو نفس ما كرره تقرير البنك الدولي أكتوبر 2020 معوضا مفهوم “بقايا رأسمالية الدولة” بـ”العقد الاجتماعي القديم”: “سلطت الصدمة المزدوجة الضوء على عدم المساواة في سوق العمل المزدوجة والعقد الاجتماعي القديم الذي لم يعد قائما… ويمكن أن يحل محل العقد الاجتماعي القديم غير المنصف إصلاحات في جهاز الخدمة العامة تحتفظ بالعمال الموهوبين، وتزيل الحماية غير العادلة للمؤسسات المملوكة للدولة والقائمة على المحسوبية، مع توفير الدخل الأساسي والرعاية الصحية للجميع”.

يترقب البنك الدولي استمرار الفجوة الغذائية بدول المنطقة إذ “توقع أن يزداد الطلب الكلي على الحبوب في المنطقة العربية بنحو %70 بين العامين 2000 و2030، من 84 مليون طن إلى 142 مليون طن، فحتى لو زاد إنتاج الحبوب الإقليمية بنحو %85، من 37 إلى 69 مليون طن، فإن إجمالي كمية الحبوب المستورَدة سيزداد بنسبة %55 من 47 مليون طن إلى 73 مليون طن. ويتوقع أن المغرب هي الدولة الوحيدة التي ستخفض وارداتها من الحبوب (بنسبة %17)، في حين أن مصر هي البلد الذي يتوقع أن يكون صاحب أكبر زيادة في وارداته من الحبوب في المنطقة (بنسبة %138 بين العامين 2010 و2030)، تليها سورية ومنطقة دول مجلس التعاون الخليجي”.

استمرت دول المنطقة، بما فيها دول بلدان شمال أفريقيا، في نفس السياسة الفلاحية/ الغذائية المفضية إلى تأثر البلدان بأزمة الغذاء العالمية لسنتي 2007- 2008: سياسة قائمة على مفهوم “الأمن الغذائي” الذي تعتمده منظمات الرأسمال العالمي [صندوق النقد والبنك الدوليين…] ومنظمات الأمم المتحدة [منظمة الأغذية والزراعة FAO]، وهو نفس النهج الذي واصلته إثر أزمة كوفيد- 19.

المقال أعلاه مأخود من دراسة : أزمة كوفيد 19 وضرورة النضال من أجل السيادة الغذائية بشمال أفريقيا

لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا