سوق الأسمدة المغربية في سياق حرب روسيا- أوكرانيا ومشروع السيادة الغذائية



“لا تُهدر أبدا فرصة أزمة جيدة!”. كان هذا عنوان دراسة 1 رائعة للمناضل والكاتب الفليبيني والدن بيلو، إبان أزمة جائحة كورونا. وهو شعار يتبناه عمليا الرأسماليون وأرباب الشركات الكبرى محليا وعلى المستوى العالمي، كلما نشبت أزمة، حربا كانت أو أزمة صحية أو اقتصادية.

يأتي “المجمع الشريف للفوسفاط” [م.ش.ف] محتكر إنتاج الأسمدة بالمغرب على رأس هذه الشركات، إذ أكد ذلك رئيسه مصطفى التراب يوم 11 أكتوبر 2022، في ندوة اللقاء السنوي بين المجموعة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي في واشنطن، بقوله: “هناك فرصة في الأزمة الحالية لكي نتعامل مع التوازن على المدى البعيد والتركيز على القارة الإفريقية لأنها تعاني نقصاً كبيراً” 2.

ما رهانات أكبر محتكِر إنتاج الفوسفاط المغربي (م.ش.ف) في السوق الإفريقية والدولية؟ هل تستفيد المالية العامة للدولة من فورة عائدات الأسمدة تلك؟ ما عائد الفلاح الصغير المغربي؟ هل فعلا يساهم م.ش.ف في ضمان “الأمن الغذائي” وتحقيق “السيادة الغذائية” كما هو ورادٌ في أدبيات المجمَّع م.ش.ف؟

حرب روسيا- أوكرانيا ورهانات سوق الأسمدة العالمية

سببت حرب روسيا- أوكرانيا (وقبلها جائحة كوفيد- 19) اضطرابا في سلاسل الإمداد العالمي، سواء في ما يخص الأغذية أو مدخلاتها، وعلى رأسها الأسمدة. فروسيا تُعَدُّ “أكبر مصدر للأسمدة في العالم بـنسبة 15.1٪ من إجمالي صادرات الأسمدة” 3.

الحرب التجارية هي إحدى الأسلحة المستعمَلة حاليا بين الطرفين (روسيا من جهة، وأوكرانيا و”الغرب” من جهة أخرى). وفي وجه العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، تعتمد هذه الأخيرة على تبعية الاتحاد الأوروبي وأجزاء أخرى من العالم (خاصة أفريقيا) على مكانتها في إنتاج الأسمدة ومكانتها كثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي، وهو مكون رئيسي لجميع الأسمدة الفوسفورية وكذلك الأسمدة النيتروجينية: “يعتمد الاتحاد الأوروبي… على روسيا للحصول على 30٪ من إمدادات الأسمدة” 4.

يبحث المغرب، عبر المجمع الشريف للفوسفاط، على تموقع في سياق هذه الاضطرابات، ويركز على أنه يمثل “حارس بوابة سلاسل الإمداد الغذائي العالمية”، ولكن هذه الجملة المنمقة لا تعني إلا مواصلة نفس التخصص (“كل شيء للتصدير”) الذي أُولِيَ للمغرب في قسمة العمل الدولي منذ الاستعمار: إنتاج المواد الأولية وفي أرقى مستوياته معالجتها وتحويلها.

سوق دولية ضخمة

سوق الأسمدة ضخمة جدا، وتسيل لعاب الراكضين وراء الأرباح. ففي عام 2020، بلغ حجمها “حوالي 190 مليار دولار أمريكي… وفي عام 2021، بلغ حجم سوق الأسمدة الفوسفورية العالمية [وحدها] حوالي 59 مليار دولار أمريكي” 5.

وما دام الرهان رفع الإيرادات في ظل فرصة/ أزمة لا أحد يضمن استمرارها، فإن تصريحات المجمع الشريف للفوسفاط بـ”الاقتراب أكثر من صغار الفلاحين في القارة [أي إفريقيا]”، مجرد تلطيف لصيغة غزو السوق الإفريقية والبحث عن الفلاحين القادرين على شراء أسمدة في سياق اقتصادي عالمي متسم بارتفاع أسعار الغاز وباقي المدخلات الفلاحية.

يندرج المغرب عبر م.ش.ف ضمن كبار المصدرين العالميين للأسمدة، وهذه بعض الأرقام الخاصة بسنة 2021 6:

المجمع الشريف للفوسفاط: شركة رأسمالية كبرى

تأسس م.ش.ف سنة 1920 تحت اسم “المكتب الشريف للفوسفاط”. ولأن فرنسا (المستعمِرة آنذاك) متخوفة من منافسة الدول الأخرى لها، قرر “ليوطي” المقيم العام الفرنسي آنذاك “إسناد عمليات الاستكشاف والاستغلال إلى “الدولة الشريفة ولحسابها” حسب ظهير 27 يناير 1920، من أجل منع القوى والشركات الأجنبية من بسط سيطرتها على هذا المورد الهام” 7. هذا مع التركيز على تضمين النظام الأساسي للمكتب الشريف فكرة أن الأمر لا يتعلق بنظام للتدبير المباشر من طرف الدولة، ما جعلها “نوعا من المؤسسات التي لديها مساهم واحد فقط: الدولة”، وهذا مكنه من الجمع بين مرونة القطاع الخاص وصرامة القطاع العمومي” 8.

حافظت دولة “الاستقلال” على نفس نمط التدبير: “مؤسسة عمومية ذات طابع مدني واستقلال مالي تحت الإشراف الإداري لوزارة الاقتصاد الوطنية” 9. كان المكتب، ولا يزال، إحدى أدوات الملكية المغربية لإنماء رأسمالية محلية تحترم حصتها ضمن قسمة عمل دولية محدَّدة إمبرياليا.

يحتكر الملك تعيين المدراء العامين للشركة، التي تناوب على رئاستها أفراد من عائلات رأسمالية وأخرى تدرجت في المناصب الديبلوماسية. وأهمهم هو الرئيس الحالي مصطفى التراب الذي سبق له أن كان رئيس الاختصاصيين في التنظيم بالبنك الدولي (واشنطن، 2002) 10. وتخضع الشركة لإشراف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي عبر اجتماعات سنوية.

في سنة 1974، استحوذ م.ش.ف على الشركة المغربية للأسمدة شركة (فيرتيما) التي تم إنشاؤها سنة 1972، وفي سنة 1999 جرت خوصصة هذه الشركة، ليحتكر م.ش.ف تلبية جميع الاحتياجات المحلية من الأسمدة الفوسفاتية 11.

لكن نقطة التحول الكبرى في تاريخ م.ش.ف كانت بتاريخ 26 فبراير 2008، حيث تحول إلى شركة مجهولة، وكانت بداية الاندماج مع الرأسمال البنكي المغربي، إذ بتاريخ 12 يناير 2009، “تمت عملية المساهمة المشتركة بين مجموعة م.ش.ف والبنك المركزي الشعبي، وبموجب ذلك استحوذ البنك الشعبي على 5،88٪ من مجموعة OCP، ونفس الشيء بالنسبة لمجموعة م.ش.ف التي استحوذت على 6،6٪ من رأسمال البنك الشعبي” 12.

هكذا سيكون انشغال المؤسسة هو ضمان أرباح المساهمين وبالتالي الخضوع لتوجيهاتهم، شأنها شأن جميع الشركات المساهمة، وهو ما عبر عنه بالحرف رئيسها الحالي مصطفى التراب بقول: “لقد استبدلنا ضريبة الاحتكار- في الوقت الذي كان فيه المكتب الشريف للفوسفاط مؤسسة عامة- بسياسة توزيع الأرباح التي تسمح للشركات المحدودة بدفع مستحقات مساهميها” 13.

يحتكر الملك تعيين المدراء العامين للشركة، وتخضع لإشراف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي عبر اجتماعات سنوية.

المنظور الرأسمالي لدى الشركة واضح للعيان. فقد عينت محمد جمالي مديرا عاما لـ” OCP AFRICA”. هذا الأخير كان شغل لمدة ثلاث سنوات منصب مدير Logdev Africa المتخصصة في التنقيب والتطوير العقاري للأنشطة اللوجستية، وهي فرع الشركة الوطنية للنقل واللوجستيك (SNTL). ومنذ تأسيسه عمل ” OCP AFRICA” على “تحويل الفلاحة التقليدية والمعيشية، الأكثر انتشارا في إفريقيا… إلى فلاحة تخلق القيمة والثروة”. ومفاهيم “خلق القيمة والثروة” معروفة في سياق الخيارات النيوليبرالية للدولة بالمغرب وللمجموعات الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها م.ش.ف: المستثمِر الكبير قائد التنمية الذي تخلق “القيمة والثروة” 14، والتي ستنساب آثارها فيما بعد على شرائح المجتمع الأخرى، وفق الخرافة المروَّج لها من طرف أدبيات البنك العالمي.

تظل المؤسسة، المصنفة استراتيجيةً، خارج المساءلة البرلمانية. اكتفى تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات في مارس 2019 بنشر خلاصة لم تتجاوز 11 صفحة، متكتما عن التفاصيل بمبرر “حساسية الجوانب التي تناولتها المهمة وطبيعة المعطيات التي تم استعمالها، والتي يمكن أن يؤدي نشرها إلى الإضرار بمصالح المجمع” 15.

الأسمدة: منصة من بين أخريات لغزو القارة الإفريقية

المستهدَف إذن هو نقل تجربة السياسة الفلاحية المتبناة بالمغرب (المخطط الأخضر وحاليا مخطط الجيل الأخضر)، سياسةٌ قائمة على حفز الاستثمار الرأسمالي الزراعي الكبير، باعتباره رائد التنمية، على غرار باقي القطاعات.

لا يصدر المغرب الأسمدة فقط، بل نموذجا زراعيا رأسماليا كبيرا أيضا، وهو ما لم يخفيه إلياس الفالي، العضو المنتدب للاستراتيجية المؤسسية والاستدامة في م.ش.ف، بقول: “إن التعاون بين القطاعين العام والخاص سيكون مطلوبًا في المستقبل” 16. إن “شراكة قطاع عام- قطاع خاص (PPP)” حصانُ طروادة الرأسمال الخاص لاقتحام قطاعات كانت بعيدة عنه حتى الآن، أو يتهرب من تحمل كلفة الاستثمار في بنيتها التحتية، بينما يحتكر ثمار إيراداتها وأرباحها. وفي هذا السياق شدد الوفد المغربي إلى اجتماع المجلس السلم والأمن الأفريقي المخصص للأمن الغذائي في أفريقيا (ماي 2022) على “ضرورة اعتماد السياسات اللازمة لتحفيز التحول الاقتصادي والهيكلي في أفريقيا” 17.

ما يقوم به م.ش.ف تنفيذ قطاعي لاستراتيجية عامة للرأسمال الكبير (المحلي والعالمي) والدولة، وهو ما تضمنته وثيقة صادرة عن وزارة المالية منذ سنة 2015 جاء فيها: “يتطلب جلب ثقة الشركات وكذا المستثمرين المحتملين تحديثات مؤسساتية للقطاعات (التدبير المفوض والامتياز والخوصصة)… وفي هذا المجال، يمتلك المغرب تجربة غنية ومستوى خبرة مقنع إلى حد ما… يمكنه أن يتقاسمها مع البلدان الإفريقية” 18.

إعادة إنتاج تراتبية النظام الإمبريالي

يعيد المغرب، في علاقته مع إفريقيا، إنتاجَ نفس التراتبية القائمة في السوق العالمية بين دول إمبريالية/ مركز ودول تابعة/ طرف، خاصة عند الحديث عن “المساعدة والأسعار المخفضة”: “قال مسؤول كبير في شركة م.ش.ف ، إن المجموعة ستعرض 180 ألف طن من الأسمدة كمساعدة و370 ألف طن بأسعار مخفضة لمساعدة الدول الأفريقية على مواجهة ارتفاع الأسعار… كما قالت ندى المجدوب، نائبة الرئيس التنفيذي لإدارة الأداء، في مقابلة مع رويترز إن الكميات المعروضة والمخفضة ستمثل 16٪ من الطلب الأفريقي هذا العام وربع مبيعات مجموعة م.ش.ف في القارة” 19.

إن منطق المساعدة الغذائية مدمر للإنتاج المحلي والفلاح الصغير عكس ادعاءات ممثلي م.ش.ف، إذ تضيق مجالات تصريف المنتوجات المحلية وتغرق السوق المحلية بالمنتوج المستورَد وتغير العادات الغذائية. فضلا عن أن مقدم المساعدات يبحث دائما عن النجاح المضمون لمشروعه. نبه إلى هذا الأمر، منذ زمن طويل، ميشال هوسون Michel Husson وتوماس كورتو Thomas Courtot, بقول: “هكذا يمكن أن نرى مشاريع تدعي أنها “موجهة نحو الأكثر حاجة”، توزع ثرواتها بشكل رئيسي على المزارعين “المتقدمين” الميسورين أكثر من المتوسط. الذين يُعتقد أنهم قادرون على زيادة الإنتاج بأسرع وقت” 20.

تتبنى م.ش.ف نفس انتقادات المؤسسات المالية الدولية لدول العالم الثالث فيما يخص العراقيل بوجه الاستثمار الخاص (الرأسمالي): “التهديدات الموجودة في بعض البلدان الأفريقية، في هذه الحالة، انعدام الأمن، ونقص البنية التحتية، وزراعة الكفاف المهيمنة، وعدم الاستقرار السياسي، والإطار القانوني الفاشل الذي لا يحمي حقوق المستثمرين، والفساد…” 21. الغاية إذن هي إزالة كل ما يقف في وجه المستثمرين، وعلى رأسهم OCP لغزو القارة.

بدأت م.ش.ف هذا العمل بـ”إطلاق مجمع الأسمدة في إثيوبيا، باستثمار قدره 3.7 مليار دولار أمريكي” 22، و”اتفاقية مع نيجيريا لبناء مصنع أسمدة تفوق قيمته 1.3 مليار دولار” 23.

عائدات الأزمات

شهدت عائدات م.ش.ف ارتفاعا كبيرا في سياق جائحة كوفيد- 19، وهو ما عبر عنه بإعجاب الرئيس المدير العام للمجمع في تصريح لمجلة “جون أفريك” بقول: “إن ارتفاع حجم مبيعاتنا في سياق دورة منخفضة، والتي اتسمت أيضا بالشكوى المقدمة من منافسنا الأمريكي، إنجاز متميز” 24.

في ذات السياق كشف “عزيز رباح، وزير الطاقة والمعادن والبيئة، أن إنتاج الفوسفاط من طرف المجمع الشريف للفوسفاط عرف زيادة بحوالي %6,2 خلال سنة 2020” 25.

الأمر عينه في ما يخص مبيعات م.ش.ف إبان حرب روسيا- أوكرانيا. إذ حققت “رقم معاملات بلغ حوالي 25,33 مليار درهم خلال الربع الأول من سنة 2022، أي بزيادة نسبتها %77 مقارنة بالنتائج المحققة خلال نفس الفترة من السنة الماضية” 26.

لم يخف بلاغ صادر عن م.ش.ف سبب هذا الإنجاز، إذ ورد فيه: “الصراع الروسي الأوكراني زاد من حدة السياق المتقلب على مستوى توازن العرض والطلب داخل سوق الفوسفاط، الأمر الذي أدى إلى زيادة جديدة في أسعار المواد الأولية ولا سيما الأمونياك والكبريت” 27.

السؤال الكبير هنا هو: في مصلحة من يصب دفق الإيرادات الكبير هذا؟ وهل ستُسهم في التخفيف من تآكل عائدات الدولة؟ وهل ستنساب آثارها على صغار منتجي الغذاء ومستهلكيه؟

الجواب ليس رهين النوايا التي يصرح بها مسؤولو الدولة ومجمع م.ش.ف ، بل بطبيعة تلك المؤسسة والإطار الاقتصادي الذي تندرج فيها استراتيجيتها.

حدود فورة العائدات

هذه الفورة من العائدات لها حدود، وأهمها:

أ. مديونية ثقيلة:

تُموَّل استثمارات م.ش.ف أساسا عبر الديون. فبرسم سنة 2018، ناهزت هذه الديون 35 مليار درهم28. ويبرر رئيس المجمع مصطفى التراب تلك الديون برقم المعاملات (55 مليار درهم) ونتيجتها الصافية (5.4 مليار درهم)، وتوقعات باستمرار نمو الطلب والاستهلاك. ولكن هذه التوقعات لا تأخذ بعين الاعتبار تقلبات سوق الفوسفاط العالمية، إذ إن أي انخفاض سيخلف مديونية ثقيلة فضلا عن فرط استخراج للحفاظ على نفس مستوى الإيرادات.

وهناك سوابق تاريخية تبرر ذلك. فبعد ارتفاع عائدات الفوسفاط بداية السبعينات، جاء انهيار سعره وارتفاع ثمن البترول عالميا، متضافرا مع موسم جفاف قاسِ ليفرض “سياسة تقشف وتطهير المالية العمومية” 29. وفي منتصف سنة 2007 إلى منتصف سنة 2008 بلغ سعر الفوسفاط الخام آنذاك ما يقارب 400 دولار أمريكي وهو ما يعادل 10 مرات مستوى الأسعار قبل سنة 2007 30،‬ إلا أن هذه الفترة أورثت المجمعَ تركة ديون ثقيلة. إن العائدات ذات أمد قصير بينما المديونية ذات أمد طويل وبمشروطيات مقيِّدة .

سيتفاقم حجم وكلفة المديونية مع رفع معدلات الفائدة مؤخرا من طرف البنك المركزي الأمريكي، وحذو البنك المركزي المغربي نفس الإجراء بمبرر تخفيض التضخم الجاري.

بـ. المنافسة والحروب التجارية:

المنافسة في سوق الأسمدة الدولية قوية جدا. فرقم العائدات الكبير لسنة 2020 تحقق بفعل “انخفاض العرض في ظل تراجع الصادرات الصينية وانخفاض مخزونات الهند والولايات المتحدة”31.

ج. ارتفاع أسعار الغاز:

الغاز مكون رئيس لجميع الأسمدة الفوسفورية وكذلك الأسمدة النيتروجينية. والمغرب مستورد كبير للغاز. يبلغ استهلاك المغرب من الغاز الطبيعي نحو مليار متر مكعب سنويًا، وفق تأكيدات وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، الدكتورة ليلى بنعلي, ومقابل ذلك يبلغ الإنتاج المحلي من الغاز نحو 110 ملايين متر مكعب سنويًا فقط، وهو ما يجعل الغاز المنتَج محليا يلبي فقط 11% من إجمالي استهلاك المغرب من الغاز الطبيعي 33. وهكذا سيُعدِّل ارتفاع أسعار الغاز كفة الميزان على حساب العائدات.

د. إجهاد مائي مزمن:

انتقلت حصة الفرد من المياه من 2500 متر مكعب سنة 1960، إلى 700 سنة 2019، بنسبة انخفاض بلغت %75 34. وإنتاج الفوسفاط يستهلك الكثير من المياه. والرهان على تقنية التحلية مُكلِّف جدا، إذ “سيتطلب اعتماد المغرب المتزايد على محطات تحلية المياه لتلبية الاحتياجات الصناعية والزراعية والسكنية استثمارات جديدة كبيرة في توليد الطاقة من مصادر الطاقة المتجددة. تتطلب محطات تحلية المياه 10 أضعاف كمية الطاقة لإنتاج نفس حجم المياه مثل معالجة المياه السطحية التقليدية” 35.

ماذا عن مساهمة م.ش.ف في مالية الدولة؟

لا بد بداية من الإشارة إلى أن م.ش.ف يستفيد مجانا من “التربة التحتية المغربية مما يقلل بشكل كبير من تكاليف الإنتاج الخاصة به” 36. ورغم أن مصطفى التراب أشار إلى م.ش.ف “كمساهم أو دافع الضرائب لا يتناسب مع ما كان سائدا من قبل” 37. إلا أن المجمع ظل، بذريعة ارتفاع ديونه، “يطالب الدولة باسترجاع متأخرات مالية تتعلق بالضريبة على القيمة المضافة”، وهو ما تم له مثلا سنة 2018 حين صرح محمد بنشعبون وزير المالية آنذاك، “إن الدولة وفي متم يونيو 2018، لم تعد مدينة للمجمع حيث قامت بأداء متأخراتها المتصلة بالضريبة على القيمة المضافة وقيمتها 20.4مليار درهم” 38.

فضلا عما يسمى في منطق رأس المال “التكاليف الخارجية”، أي فرط الاستخراجية 39 وتدمير البيئة. فمنطق السوق يجعل الدول ذات اقتصاد التصدير متضررة في كلا الحالتين: رفع حجم الإنتاج في حالة ارتفاع الأسعار في السوق العالمية لتحقيق أعلى الإيرادات، ورفعه أيضا في حالة انخفاض الأسعار للحفاظ على المستويات السابقة من الإيرادات، مستنزفة بذلك تلك الثروة الطبيعية. ففي سياق جائحة كوفيد- 19 تمكن م.ش.ف “من تعويض انخفاض الأسعار في السوق الدولي بزيادة كميات المنتجات المصدرة” 40.

أما عن البيئة فشعار م.ش.ف “إنتاج أكثر وأفضل، مع تقليل التلوث”، لا يُطبَّق منه سوى الشق الأول. إذ يخطط م.ش.ف “لإنتاج 8.2 مليون طن إضافية من الأسمدة الفوسفورية بحلول عام 2026. ويبلغ الإنتاج حاليا حوالي 12 مليون طن” 41. أما عن الأضرار البيئية فقد سكتَ تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات (مارس 2019) عن تفاصيل الأثر البيئي للنشاط المنجمي لـ م.ش.ف.

الفلاح الصغير: في انتظار انسياب لا يأتي

تقوم “نظرية الانسياب” التي روج لها كثيرا البنك العالمي على فكرة أن “التداعيات الإيجابية للنمو تنساب لصالح الأكثر غنى في البداية، ولكنها تصل في النهاية إلى الأكثر فقرا. بالتالي من مصلحة الأخيرين أن يكون النمو قويا قدر الإمكان، لأن فتات الثروة التي تصل إليهم يتوقف عليه. في الواقع، إذا كان النمو ضعيفا، فإن الأغنياء يحتفظون بحصة أكبر مما لو كان النمو قويا” 42.

لكن صغار المزارعين يتأثرون بالواقع وليس بالنظريات. فارتفاع مدخلات إنتاج الأسمدة وعلى رأسها الغاز الطبيعي المستورَد فضلا عن التسعير العالمي للفوسفاط، يجعل نصيبهم هو تأثرهم بارتفاع أسعار الأسمدة في السوق العالمية.

تزايدت أسعار الأسمدة في السوق المحلية بنسبة %41 في الموسم الفلاحي 2021- 2022، مقارنة بالموسم السابق 43. وفي سبتمبر 2022 كشفت وكالة التصنيف الدولية “فيتش رايتنغ” عن توقعات بارتفاع أسعار الأسمدة المغربية من 200 دولار للطن حاليا إلى 270 دولارا مع نهاية السنة الجارية، بسبب مخاوف وإكراهات التخزين العالمية 44.

يُعد إنتاج السكر من بين أكثر القطاعات تضررا. لتحفيز انطلاقة الموسم الفلاحي 2021- 2022 استفاد المزارعون المجمَّعون في قطاع السكر من أسعار مميزة وثابتة للأسمدة طوال الموسم الفلاحي على الرغم من ارتفاع الأسعار في السوق الوطنية والدولية. لكن الاتجاه التصاعدي لأسعار الأسمدة في السوق العالمية يقضم هذا الدعم ومعه هامش إيرادات المزراعين، وهذا ما أقره تقرير “مجموعة العمل الموضوعاتية المؤقتة حول الأمن الغذائي بمجلس المستشارين” حول “الأمن الغذائي” بقول: “إلا أنه منذ سبتمبر 2021، وحتى الآن، ظلت أسعار الأسمدة في اتجاه تصاعدي على مستوى السوق الوطنية والدولية، خاصة الأسمدة النيتروجينية… كما شهدت أسمدة البوتاس وهي كلوريد البوتاس وكبريتات البوتاس ارتفاعا في الأسعار بنحو %42 لتصل على التوالي إلى 830 درهم للقنطار و1300 درهما للقنطار”. انتهى التقرير بهذه الخلاصة : “نتيجة لذلك، سيؤدي وضع الأسعار الحالي في الأسواق الوطنية والدولية إلى زيادة تكاليف التسميد لمحاصيل السكر بنحو 4700 درهم/ هكتار، مما سيؤدي إلى انخفاض صافي هامش الربح بالنسبة للفلاحين بنسبة %23 أي ما يقارب 240 مليون درهم كمبلغ إجمالي” 45.

أثار ارتفاع أسعار المدخلات، وضمنها الأسمدة والوقود، احتجاج القسم المنظم من الفلاحين، إذ نظم المنضوون منهم تحت لواء اتحاد النقابات المهنية بالمغرب إضرابا مصحوبا بوقفات احتجاجية لمدة ثلاثة أيام 26 و27 و28 أكتوبر 2022. وهؤلاء هم من كبار الفلاحين الذي يمتلكون آلات الحرث والحصاد، أما الفلاح الصغير فهو عديم التنظيم، وينتظر عطف السماء أو الدعم الشحيح المقدم له من طرف الدولة 46.

هل من بديل؟

يتحدث م.ش.ف ، عن الأمن الغذائي والانتقال الطاقي، في حين تناول تقرير “لجنة النموذج التنموي الجديد” المعينة من طرف الملك مفهوم “السيادة الغذائية”. لكن كل هذا سطو على مفاهيم الحركات المناضلة مع إبقاء نفس الخيارات الرأسمالية الكبرى في القطاع الفلاحي، كما بمجمل الاقتصاد.

ترتكز كتابات م.ش.ف على مفهوم المنظمات العالمية، بما فيها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، للأمن الغذائي على أنه “قدرة الفرد للحصول على الغذاء”. وبتركيزه على مفهوم الفرد بدل الجماعات، وعلى مفاهيم العرض والطلب، فإن هذه المؤسسات (وضمنها م.ش.ف طبعا)، تحافظ على مبدأ تسليع إنتاج الغذاء وضمان احتكاره في يد الشركات الكبرى ذات القدرة على الأداء والإنتاج الكبيرين ضمن نفس المنظور الإنتاجوي/ الاستخراجي.

ينبغي بدءً إعادة المؤسسة إلى المِلكية العمومية تحت رقابة مواطنية وشعبية وعمالية، وتوفير الأسمدة للسوق المحلية بالدرجة الأولى

في تقرير صادر عن م.ش.ف سنة 2020، ورد ما يلي: “بالتفكير فيما وراء الأزمة الحالية، ندرك أنه لضمان الأمن الغذائي على المدى الطويل، يجب أن تتضافر سلسلة القيمة بأكملها لتحسين طريقة إنتاجنا للطعام ومعالجته واستهلاكه. وOCP لاعب حيوي في سلسلة القيمة هذه، وكانت في طليعة الابتكار في صناعة الأسمدة” 47. مختصرا هكذا “إطعام الكوكب” إلى محض إجراءات تقنية، دون طرح سؤال من يقرر السياسات الفلاحية؟ وسمات البنية العقارية من يحتكر الأرض؟ ومن يُنتج ولصالح من؟ ولا يُطرح سؤال هيكلة م.ش.ف والتحولات الطارئة عليها منذ تحويلها إلى شركة مساهمة واندماجها مع الرأسمال البنكي، وانفلاتها من رقابة المؤسسة التشريعية… إلخ.

أي ازدهار لأعمال الشركة، في هذا السياق، لن ينال منه صغار الفلاحين والمستهلك النهائي إلا بالغ الأضرار، في حين تُصرف العائدات الكبيرة في أداء ديونها الاستثمارية ومستحقات المساهمين والأجور السمينة لمِلاكها الإداري.

ينبغي بدءً إعادة المؤسسة إلى المِلكية العمومية تحت رقابة مواطنية وشعبية وعمالية، وتوفير الأسمدة للسوق المحلية بالدرجة الأولى، مع دور كبير للدولة في مراقبة الأسعار ووقف الدعم السخي الموجه للاستثمار الرأسمالي الكبير وتوجيهه للفلاح الصغير، وتوفير إمكانية الولوج إلى التمويل البنكي العمومي بأسعار منخفضة جدا لصغار منتجي الغذاء.

لن تتحقق السيادة الغذائية بنفس المنطق الرأسمالي القائم في قلب م.ش.ف. سترتفع العائدات كلما كان السياق الدولي ملائما، وسيجري تبذيرها كما هي العادة، وفي حالة انخفاض الأسعار سيجري الضغط على الاحتياطي القائم. لكن الفلاح الصغير سيظل دائما ذلك الجندي المجهول الذي يُحمَّلُ كلفة جزءٍ من الإيرادات العالية جدا للمؤسسة.

محمد بولعلام  باحث  / المغرب


  1. موقع شبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية على الرابط التالي : https://bit.ly/3U4Fr4M
  2. -12/10/2022، https://bit.ly/3WV1mhk
  3. “How Morocco Could use its Solar Energy and abundant Phosphorous to Feed the World and Offset Russia”, By Michaël Tanchum, Universidad de Navarra, July 10, 2022, https://theconversation.com/morocco-a-top-fertiliser-producer-could-hold-a-key-to-the-worlds-food-supply-180797..
  4. ibid.
  5. ibid.
  6. ” Top Fertilizers Exports by Country”, by Daniel Workman, Central Intelligence Agency, The World Factbook Field Listing: Exports – Commodities. Accessed on May 16, 2022, https://www.worldstopexports.com/top-fertilizers-exports-by-country/.
  7. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology.
  8. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology?id=1920-08-07.
  9. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology?id=1960-07-29.
  10. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology?id=2006-02-15.
  11. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology?id=1974-01-01.
  12. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology?id=2009-01-12.
  13. 4/°6/202 . https://bit.ly/3UneYQE
  14. -20/09/2022 ، https://assahraa.ma/web/2020/151453.
  15. جريدة أخبار اليوم، 20 مارس 2019.
  16. “Le groupe OCP offre à l’Afrique 550.000 tonnes d’engrais”, Mehdi Ouazzani MEHDI OUAZZANI, 21 JUILLET 2022, https://www.challenge.ma/us-africa-business-summit-ocp-accelere-ses-efforts-pour-aider-lafrique-en-matiere-de-securite-alimentaire-242796/..
  17. ” CPS de l’UA : La sécurité alimentaire en Afrique, une priorité du Maroc dans le cadre de l’action africaine commune (Ambassadeur)”, 09 mai 2022, https://www.mapnews.ma/fr/actualites/politique/cps-de-lua-la-s%C3%A9curit%C3%A9-alimentaire-en-afrique-une-priorit%C3%A9-du-maroc-dans-le.
  18. “العلاقات المغربية الإفريقية، الطموح إلى حدود جديدة”، وزارة الاقتصاد والمالية، مديرية الدراسات والتوقعات المالية، ماي 2015، https://bit.ly/3Eo44Vr
  19. – “Le groupe OCP offre à l’Afrique 550.000 tonnes d’engrais”, Mehdi Ouazzani MEHDI OUAZZANI, 21 JUILLET 2022, https://www.challenge.ma/us-africa-business-summit-ocp-accelere-ses-efforts-pour-aider-lafrique-en-matiere-de-securite-alimentaire-242796/.
  20. “على أبواب القرن الواحد والعشرين، أين أصبح العالم الثالث؟”، توماس كوتور وميشيل هوسون، ترجمة نخلة فريفر، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ص 155. 177.
  21. “OCP Group: Grand garant de la sécurité alimentaire en Afrique subsaharienne”, Par Abdelaziz RHEZALI, 24 septembre 2021, https://maroc-diplomatique.net/ocp-group-grand-garant-de-la-securite-alimentaire-en-afrique-subsaharienne/.
  22. ibid.
  23. “Exclusif – Mostafa Terrab : « Le futur d’OCP, c’est le développement vert » (1/2)”, 27 mai 2021, Par Estelle Maussion et Julien Clémençot, https://www.jeuneafrique.com/1178369/economie/exclusif-1-2-mostafa-terrab-le-futur-docp-cest-le-developpement-vert/.
  24. 4 يونيو، 2021، . https://bit.ly/3tv2Pxr
  25. 14/06L2021، https://bit.ly/3fLqyWD
  26. 17/05/2022 https://bit.ly/3DPFqLF
  27. ibide.
  28. 26/03/2019 .https://bit.ly/3UlTKT6
  29. “المغرب الممكن، إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك”، تقرير الخمسينية، مطبعة دار النشر المغربةي، الدار البيضاء، 2006، ص 143.
  30. https://centenaire.ocpgroup.ma/ar/chronology?id=2008-03-01.
  31. 23/10/2021 https://bit.ly/3WLOSrY
  32. “Exclusif – Mostafa Terrab : « Le futur d’OCP, c’est le développement vert » (1/2)”, 27 mai 2021, Par Estelle Maussion et Julien Clémençot, https://www.jeuneafrique.com/1178369/economie/exclusif-1-2-mostafa-terrab-le-futur-docp-cest-le-developpement-vert/.
  33. 2022-09-22, https://bit.ly/3EfZSXm
  34. “Impacts de la stratégie national de l’hydrogène vert d sur les ressources en eau au Maroc”, Atelier thématique- Organisations de la Société Civil, Henrich Poll Stiftung et Mena Renewables et Sustunability, Rabat- Maroc, 23 juin 2022.
  35. “How Morocco Could use its Solar Energy and abundant Phosphorous to Feed the World and Offset Russia”, By Michaël Tanchum, Universidad de Navarra, July 10, 2022, https://theconversation.com/morocco-a-top-fertiliser-producer-could-hold-a-key-to-the-worlds-food-supply-180797.
  36. 4 يونيو، 2021،»، https://bit.ly/3Tfp6cN
  37. ibid.
  38. 24/10/2018, https://v2.ahdath.info/429981.
  39. https://attacmaroc.org/كتاب-الديون-والنظام-الإستخراجي،-الصع/.
  40. 21- 11- 2022, https://bit.ly/3fKAD6c
  41. “How Morocco Could use its Solar Energy and abundant Phosphorous to Feed the World and Offset Russia”, By Michaël Tanchum, Universidad de Navarra, July 10, 2022, https://theconversation.com/morocco-a-top-fertiliser-producer-could-hold-a-key-to-the-worlds-food-supply-180797.
  42. “البنك العالمي، تاريخ نقدي”، إريك توسان، ترجمة ونشر جمعية أطاك المغرب عضو لجنة إلغاء الديون غير الشرعية، أبريل 2022، ص 197.
  43. 01/11/2021, https://anwarpress.com/225919.html.
  44. 20/09/2022, https://bit.ly/3UyAj9o
  45. “الأمن الغذائي بالمغرب، تقرير”، مجموعة العمل الموضوعاتية المؤقتة حول الأمن الغذائي بمجلس المستشارين، يوليوز 2022، ص 114- 115.
  46. 28/09/2022, https://www.aps.dz/ar/monde/132118-2022-09-28-13-23-53.
  47. ” Sustainability Report, Working together for sustainable agriculture”, OCP, 2020.