قانون “تنظيم تجارة البذور” في مخاضه الأخير: حقوق ملكيّة أم عبودية بذور؟



“صَرلي 14 سنة راكض ورا هالقانون، وكل مرّة يضيع بالجوارير..، معايشو أنا من وقت اللي انكتب وتعدّل كذا مرّة ورجعوا نيموه”. يصرّح أنيس حداد لـ “المفكّرة القانونية”، وهو صاحب شركة SEED BOUND، الشركة الوحيدة في لبنان والأبرز في الشرق الأوسط، العاملة في مجال تجارة البذور المهجّنة. بهذه العبارة، يوجز حداد المسار التاريخي لاقتراح القانون الرامي إلى “تنظيم تجارة البذور والشتول ومواد الإكثار”، الذي كان قد أحاله النائب أيوب حميّد منذ 4 سنوات إلى المجلس النيابي تمهيدا لإقراره. 

ولدى السؤال إن كان النائب السابق حميّد هو الذي عمل على صياغة اقتراح القانون “الكارثي” كما وصفّه الناشطون في مجال السيادة الغذائيّة والزراعة الإيكولوجيّة، أفادنا حداد الذي يشدد على صداقته للنائب حميّد: “لا كتبوا هنّي ولا بلوط، هنّي جابُوا قانون هولندي وترجموه، وبلّشوا يعدلوا مواده .. أما النائب حميّد فأنا من أخذ موعدًا معه كونه رئيس لجنة الزراعة والسياحة وبعد أن سمع “خبريتي”، قال لي: “خلص رح اسحب المسودة من الوزارة وأحيلها على اللجان لدرسها”. ويضيف حداد: “هذا الحكي منذ 4 سنوات، ورجع نام الاقتراح باللجان… وكما جرتْ العادة، زرت وزير الزراعة نزار هاني مؤخرا وقدّمت له دراسة عن مشروعي ليكون إنتاج البذور هو الزراعة البديلة في لبنان.. ومفروض هلق الوزير هاني استردّ اقتراح القانون وعم يشتغلوا عليه.”  

وعن دوافع الانتظار الطويل وآماله المرتقبة، يشدّد حداد على حاجته لتنظيم القطاع وتوثيق البذور: “ضروري منحنا حقوق الملكية الفكرية على البذور لننتجها في لبنان، بلا ما نخاف أنّو حدا من المزارعين يلي رح نتعاقد معهن يسرق بذورنا واستثمارنا”. 

ويخلص حدّاد للقول: “كشركة، نجهد لتوفير أصناف جديدة قادرة على تأمين بذور مهجّنة للمزارع بإنتاجية أعلى مما يزرعه، وهيك بصير يشتري كل سنة بذور من عنا. هيدا الهدف كله.. مجهودنا العلمي يترجم بمردود مادي.” ويعقّب بالقول:” ما حدا بصلّي من دون ما يطلب الغفران.” ويوجز حداد أهميّة استثماره في قطاع البذور المهجّنة.

وبالعودة إلى أرشيف المرصد البرلماني، سجّل في 7 تشرين الثاني 2022 الاجتماع الأول لدرس هذا الاقتراح في اللجان المشتركة، والتي خلصت لإحالته إلى اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان المشتركة والمكلّفة درس اقتراح قانون الصيد المائي وتربية الأحياء المائية، المقترح بدوره من قبل حميّد. وحتى الساعة، ما من جديد تحت قبة البرلمان. وقد ظن منتقدو الاقتراح لسنوات أنه قد مات في الأدراج، خاصة وأنه قد سبق وتمّ التواصل مع النائب حميّد من قبل سارة سلّوم وبشار أبو سعيفان، وهما من مؤسسي الحركة الزراعية في لبنان ليسجّلا معارضتهما لأثره السلبيّ بل المدمّر تجاه صغار المزارعين والمشاتل وتداعياته الكارثية على السيادة الغذائية. وقد أفادَهما حميّد يومها: “بأنه لم يكن يعلم بأضراره ومخاطره وأنه ليس من أتى به بل أن هناك شخصًا “خبيرًا” قد زوّده به.” والجدير بالذكر أنّ “المفكّرة” سعت جاهدة للتواصل مع النائب حميّد المكلّف بالاقتراح إلا أن جميع محاولاتنا باءت بالفشل.

سؤال يطرح. والحقيقة أنّ مجموعةً من الجمعيات والخبرات البيئيّة والعلميّة والزراعيّة المعنيّة بالزراعة البيئيّة والسيادة الغذائيّة، دقّت ناقوس الخطر عند استماعنا إليها جرّاء إعادة إحياء اقتراح القانون من جديد وتداعياته على حقوق المزارعين وسيادتهم. وقد تحققنا من وضع وزارة الزراعة مجددا يدها على اقتراح القانون المذكور، حيث شكّلت لجنة، دأبت في الأسابيع الأخيرة وبوتيرةٍ متسارعة على عقد الاجتماعات القانونية والتقنية، بالتعاون والتنسيق مع المركز الدولي للدراسات الزراعية العليا لدول حوض البحر المتوسط في باري- إيطاليا. CIHEAM Bari. 

ويرجّح وفق الجو الذي رصدته “المفكّرة” بأن اللجنة المشكّلة، لا تهدف إلى نفض الغبار عن اقتراح حميّد وحسب، بل إنها تحرص على تعديله، ولكن يبقى السؤال إلى أي حدّ سيتم تعديله؟ وهل سيطهّر من كل المواد التي لفّها قلق خبراء السيادة على الغذاء والزراعة الإيكولوجية؟ والذين لم يتردّدوا في إعلان ممانَعتهم للصيغة المقترحة والعمل على الإطاحة بها بكل ما أوتوا من وسائل مناصرة.  

منذ إعادة طرح الاقتراح على الطاولة، سجّلت موجة قلق بل غضب صارخ في الشارع السياديّ الزراعيّ اللبناني، إذ يخشى أننا “أمام مسار جديد مقلق وقد لا تحمد عقباه” وفق ما رصدته “المفكّرة” في مقابلاتها، خاصة في ظل التلويح بمنح حقوق ملكية فكرية على البذور المنتجة، وفرض شروط ومعايير وتراخيص، مع تجريم أي مخالفة لأحكامها.

وبالتالي، لا يتركّز هذا التحقيق على مضمون الاقتراح، طالما أن النسخة الأخيرة المعدّلة والمحدّثة بجهود وزارة الزراعة، والتي جهدنا عبثًا في الحصول عليها، سيتمّ إطلاقها قريبا. وإنما سنَعمد، من جهة، إلى استعراض الإشكاليات والمخاوف والتساؤلات التي أثارتها مجموعة من خبراء إئتلاف الزراعة البيئة والحركة الزراعية في لبنان، وأصحاب المصلحة المعنيين بمفاعيل القانون من مزارعين ومنتجين للبذور البلديّة. ومن جهة أخرى، سنوثّق آراء ومواقف كل من وزارة الزراعة، ومصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، وبنك البذور فيها، ووزارة الإقتصاد ومركز CIHEAM Bari الشريك في مشروع تنظيم قطاع البذور، التي رصدتها “المفكّرة” لاستشراف فلسفة التعديلات القانونية وتوجّهاتها.

وفي سياق مقابل، نستعرض الملاحظات المثارة حول القوانين الكفيلة بتهديد السيادة على الغذاء والزراعة الإيكولوجية وتهميش المزارعين ونسف قدرتنا على مواجهة الأمراض والتغيرات المناخية.

زراعة القمح، بدر يدوي، مزرعة بذورنا جذورنا (تصوير شارلوت جوبير)

وفق أسبابه الموجبة، تكمن الغاية في تنظيم مهن تجارة الشتول ومواد الإكثار على اختلاف أنواعها وتحسين إنتاجها وإكثارها وتمكين المزارعين من الحصول على أفضل المدخلات الزراعية واستخدامها على أحسن وجه. وتضيف المادة الثانية المقترحة الأهداف التالية:

  1. تنظيم وتسجيل أصناف البذور والشتول ومواد الإكثار بما في ذلك الأغراس وإنتاجها وتحسين إنتاجها وإكثارها. 
  2. حماية حقوق الملكيّة لمُنتجي البذور والشتول ومواد الإكثار.
  3. تلافي المخاطر المباشرة أو غير المباشرة على الإنسان والحيوان والنبات الناتجة عن الأمراض والآفات التي يمكن أن تصيب البذور والشتول ومواد الإكثار. 
  4. الرقابة على مهن تجارة البذور والشتول ومواد الإكثار وتسجيل هذه الأخيرة 

كما ينصّ الاقتراح على تشكيل لجنة ستلعب دورًا رئيسيًّا استشاريًّا فنيًّا، حيث يناط بها درس واقتراح سياسات إدارة القطاع وإحالتها للوزير. إضافة إلى اقتراح الشروط الواجب توفّرها في البذور والشتول ومواد الإكثار بغرض الإتجار.. وكذلك اقتراح مواصفات العبوات والملصقات عليها والعلامات الواجب وضعها على الشتول. 

وينيط الاقتراح باللجنة مهمة درس طلبات التراخيص وإجازات المهن وتقييمها وإبداء الرأي بشأنها وإعادة النظر فيها. والأهمّ اقتراح حظر تسجيل بعض أصناف البذور أو الشّتول أو مواد الإكثار أو الإتجار بها بصورة نهائية أو مؤقتة.. أو اقتراح وقف الإتجار بأيّ صنف في ضوء المستجدات.. واقتراح حظر استيراد أو تصدير أي صنف منها.

اللافت في هذا الاقتراح هو اشتراط حصول – أي شخص طبيعي أو معنوي، “يمارس مهنة أو أكثر من مهن إنتاج أو إكثار أو التحسين الوراثي أو استيراد أو تصدير أو نقل أو بيع أو تخزين أو توضيب أو إعادة توضيب أو توزيع البذور والشتول ومواد الإكثار” – على ترخيص مسبق يصدر عن الوزير بعد استطلاع رأي اللجنة. يمنح الترخيص لمدة 6 سنوات قابلة للتجديد وتستوفي الوزارة مقابل الترخيص رسوم. 

أما الفصل الرابع من هذا الاقتراح، فقد فنّد شروط تسجيل البذور والشتول ومواد الإكثار. إذ يحظر “إنتاج أو إكثار أو التحسين الوراثي أو استيراد أو تصدير أو نقل أو بيع أو تخزين أو توضيب أو إعادة توضيب أو توزيع أي صنف من أصناف البذور والشتول ومواد الإكثار ما لم يكن مسجّلا في سجلّات الوزارة بناء على موافقة اللجنة. والجدير بالذكر أنّ المادة عينها أعفتْ أصناف البذور والشتول ومواد الإكثار المنتجة من قبل المزارعين لغير التجارة، من أحكامها، أما كلفة تحليل عينات البذور والشتول ومواد الإكثار فقد ألقيَتْ على نفقة صاحب العلاقة.

ويتشدّد الاقتراح في حظر بيع البذور أو الشتول المسجّلة أو عرضها أو الإعلان عنها، بصورة لا تتوافق وخصائصها، وبغير الطرق أو الأماكن أو الأوعية المعدّة لذلك، والمحدّدة من قبل الوزارة.. كما يحظر تلك الخالية من ملصق أو اسم يحدّد باللغة الوطنيّة والمصوّرات التوضيحيّة الاحتياطات الواجب اتباعها.. كما يفرض توضيب أو إعادة توضيب البذور والشتول ومواد الإكثار أو تعبئتها في أوعية مصنوعة من مواد غير قابلة للكسر أو التفاعل أو التآكل أو التحلل وإن توسم هذه الأوعية مهما بلغ حجمها ببيانات تحدّد باللغة العربية وإحدى اللغتين الفرنسيّة أو الإنكليزيّة نوع البذور أو الشتول أو مواد الإكثار وأيّة معلومة أخرى تقرر الوزارة بعد رأي اللجنة وضعها على الأوعية. 

“لم ننطلق من الصفر، تمّ استرجاع اقتراح القانون المقدّم من النائب حميد، والآن يتم البناء عليه وتحسينه”. تصرّح د. رلى العميل لـ “المفكّرة” بصفتها رئيسة فرع تحسين وحفظ وإكثار البذار، وممثلة مصلحة الأبحاث الزراعية في اللجنة الوزارية التي تصيغ مسودة الاقتراح الجديد. 

ولما كانت الانطلاقة من اقتراح حميّد وهي الصيغة الرسمية الوحيدة التي تمكّن الرأي العام البيئيّ والزراعيّ من الوصول إليها، كان لا بد من إثارة أبرز التساؤلات والمخاوف الجدية، والتي رصدناها إثر مقابلتنا أعضاء ائتلاف الزراعة البيئية والحركة الزراعية في لبنان، مزارعين وخبراء في السيادة على الغذاء والزراعة الإيكولوجية والتنمية.

وتنطلق الهواجس من الأمد القريب المنظور، إلى الأمد الأبعد والأخطر، لتسجّل 13 ملاحظة، هي الآتية: 

  1. اقتراح لا يخدم مصلحة المزارع بل يحتلّ أرضه
الزراعات المتكافلة، مزرعة بذورنا جذورنا (تصوير شارلوت جوبير)

القراءة المعمّقة لاقتراح القانون وأسبابه الموجبة، لم تكن كفيلة بتوضيح ما المشكلة التي يسعى لمعالجتها، إن عبر زيادة إجراءات التسجيل وتكاليف الرسوم والفحوصات المخبرية، وإن عبر تجريم المخالفين أو غير القادرين على الالتزام. “كيف يمكن لهذه الأحكام التنظيميّة والتجريميّة والتي ترهق المزارع وتكبّله، أن تدّعي  خدمة مصالحه وحمايتها؟” تتساءل كورين جبّور، وهي الخبيرة في العدالة البيئية والإجتماعية، ومن مؤسسي ائتلاف الزراعة البيئية في لبنان وعضو في جمعية “جبال“. 

وفي سياقٍ مواز، طرح خبراء زراعيون أسئلةً جدّية حول السيّاسات والخطط الزراعيّة العامّة التي وضعتها الدولة، والتي قد تفتح الباب لتمكين المزارعين ودعمهم. إذ يلفت بشار أبو سعيفان، رئيس الحركة الزراعية، وهي جزء من مجموعة العمل الاقتصادي الاجتماعي (سياق)، ومن شبكة “سيادة” لحماية الموارد من شمال أفريقيا ولبنان، لـ “المفكّرة” أنّ هذا الاقتراح وسواه من القوانين الزراعية المطروحة مؤخّرا: “كتلة مترابطة ما بين منظمة التجارة العالميّة والاتّفاقيات التي وقّع عليها لبنان GATES وما بين ما تعمل عليه CIHEAM Bari لتطبيق الاتفاقيات والمعايير الدولية وبين توصيات ماكنزي، والسياسات الحكومية التي للأسف تبنى على قرارات قد يستفرد في اتخاذها أشخاص لتقرير “وين منزرع وشو”، وهي أبرز الإشكاليات المطروحة مع المجتمعات والتجمّعات النقابيّة الموجودة، والتي تعمل غالبًا لأجل السلطة أكثر من كونها تمثل مصالح المزارع. ناهيك عن البرلمان صاحب الدور الرقابي الذي يغضّ الطرف، كونه في صلب شبكة المصالح.”

وفق الشبكة، فإن الدافع إلى الاقتراح هو “السيطرة على المزارع الذي يبلغ معدّل عمره 62 سنة، وشرعنة البذور الهجينة والمعدّلة وراثيا والسموم والكيماويات من جهة وهي احتلال حقيقي من نوع آخر لأراضينا، وهي توازي الاحتلال الإسرائيلي نفسه. إنها سلسلة متكاملة، فيستحيل الحديث عن نظام غذائي عادل إلا بوجود وحفظ البذور البلديّة المحليّة، وفي ظلّ عمالة زراعية عادلة وتوزيع عادل للثروة.”

والإشكالية، وفق أبو سعيفان ليست وليدة اليوم بل تراكميّة، بحيث يرتبط اقتراح قانون تنظيم تجارة البذور بسلسلة قوانين وممارسات وقرارات إدارية أصدرتها السلطة اللبنانية تاريخيّا، وآخرها ما يتمّ تسويقه لمنح القروض الصغيرة “الخطيرة”. 

ويعلن أبو سعيفان أنّ الأخطر من نصوص القوانين نفسها هي: “النظرة والفلسفة التي تقف خلف القوانين، بأن لبنان غير قادر بأن يطعم نفسه، أو أن لبنان ليس ببلد زراعيّ.” ويشدد أن “النقد لا يتوقّف عند إطار هذا القانون وحسب بل يطال السياسات العامة، حيث تنتج السلطة وبغض النظر عن الخطاب السياسات الاحتكارية عينها التي تصبّ في مصلحة رؤوس الأموال الكبيرة في البلد، إضافة لاتفاقات التجارة وطريقة التعامل بل استعباد العمال الزراعيين واللاجئين والمهاجرين والأطفال من قبل الحكومات المتعاقبة.” وهو يلفت إلى أن “احتكار القطاع الغذائي، يبدأ من البذور ومن ثم المياه وصولا لخط النظام الغذائي، إضافة إلى ضرب التربة الممنهج بالسموم، لقتلها”. 

 ويتساءل أبو سعيفان: “السلطة نفسها التي سمحت بكل هذه الانتهاكات، تسعى اليوم لتمرير القانون ومن الباب الواسع وبقلبٍ جريء”، عوض تجريم حالة الاستعباد للعمالة الزراعية، وتجريم عملية السحب الممنهج للمياه وتلويثها.. إضافة الى تجريم من يضرب التربة والغذاء بالسموم، ومن ينسف جودة الغذاء بالزراعات المائية والتعديل بالأكواد الجينيّة.. أو ومن يروّج للبذور العقيمة “التي لا يمكن الإفادة منها بمواسم مستقبليّة.. مثلما جدودنا كانوا يعملون.” 

  1. تهديد البذور البلدية وتباعا التنوّع البيولوجي، وهو “سلاحنا الحقيقي بوجه التغييرات المناخية”

ينبّه ائتلاف الزراعة البيئية في لبنان، والذي يضم مجموعة من المنظمات والخبراء الذين يدعمون الزراعة الإيكولوجية بهدف تحقيق السيادة على الغذاء، إلى خطورة المادة الأولى حول المصطلحات، والتي تعرّف الصنف variety: “إذ يشترط لتسجيل البذور أن يكون لديها صفات متميّزة، متجانسة، ثابتة في تركيبتها الوراثية قبل وبعد إكثارها وتختلف عن سواها من المجموعات بميزة أو أكثر. وهي الشروط التي تختصر بـ DUS، Distinctness, Uniformity, Stability.”

توضح جبّور لـ “المفكّرة”، أنه عند فرض ذلك: “تلقائيا يتمّ ضرب أصناف البذور البلدية والوطنية، أو المؤصّلة والتراثية Heirloom and native seeds لأنها في تأقلم مستمر، ويتم الحفاظ عليها عبر زراعتها… إنها عملية حيّة وديناميكية بامتياز بهدف تأصيل البذور والحصول على الأفضل لناحية الجودة والإنتاجية والمقاومة.. وعليه تختلف تماما عن تلك البذور المهجّنة والتي يسهل تطبيق نظام DUS عليها، إذ تأتي متجانسة ومتشابهة.. بينما البذور الأصلية والموطنيّة التي ينتجها المزارعين لا!” وفي ذلك مفاضلة أو تمييز لصالح كبار الشركات على حساب صغار المزارعين والمشاتل. النباتات، مثل معظم الكائنات الحية، تظهر خصائص مختلفة (أنماط ظاهرية) تحت تأثير العوامل البيئية المختلفة. هذه حجة أخرى قد تستعمل لرفض الأصناف التراثية.

وتخلص جبّور إلى أنه بمجرد اشتراط تصنيف البذور وتسجيل بعضها المستوفي لبعض المواصفات المتميّزة والثابتة، في حين أنّ مجموعة كبيرة من البذور لن يتم تسجيلها، وسيجرّم التداول بها.. ويقتلها تباعاً، أمر ينسف بدوره التنوّع البيولوجي الموجود، وعليه ينزع أسلحتنا بوجه التغيّر المناخي. فإن القاعدة الأساسية وفق جبّور أنّه: “كلما ارتفع تنوّع البذور والأصناف البلدية والمؤصّلة في أيدي المزارعين كلما تعزز التنوّع البيولوجي، وبالتالي تضاعفت قدرتنا ومناعتنا على مواجهة التغير المناخي.” 

وتأسف جبّور لكون هذه الأحكام تركّز على الأصناف التي تفرضها الأسواق من ناحية معايير الحجم والشكل واللون.. بغض النظر عن مقياس القيمة الغذائية والجودة ومدى القدرة المناعية على التأقلم مع الظروف المناخية: “معايير لا يكترث لها السوق.”

  1. مضاعفة الأعباء المالية والإدارية على المزارعين

” كأن ما بيكفي هموم المزارع، بدك تجبري يجمع أنواع البذور يلي بيتعامل فيها ويفحصها ويسجّلها. وكل ذلك على نفقته الخاصة”، تعلّق جبّور، وتشير إلى أن الاقتراح يشترط عملية وإجراءات معقّدة ورسوم وفاتورة إضافية على المزارعين. وعليه إن اشتراط هذه الإجراءات المعقدة يضرب تلقائيا صغار المزارعين والمشاتل، كونهم الأكثر هشاشة، عوض دعمهم وتعزيز أوضاعهم. وبذلك تستفيد من هذه المفاضلة كبار الشركات وتعزز سيطرتها على السوق لامتلاكها الموارد المالية والبشرية.

  1. تعزيز احتكار الشركات: سلب لاستقلالية المزارع وأرضه.. فحياته

إضافة إلى ما تقدّم تلفت جبّور، إلى دور الصيدليات الزراعية التي أمعنت في التسويق للبذور الهجينة من دون أي رقابة لصالح الشركات الزراعية، وتوضح لـ “المفكّرة”: “يضيف هذا القانون على المزارع عوائق وتحدّيات، ويضعه تحت رحمة أصحاب التراخيص وحقوق الملكيّة، الذين باتتْ بيدهم السيطرة على أسعار البذور والتحكّم في الأسواق. ما ينسف استقلالية المزارعين ويهدد معيشتهم.”

وهنا توضح د. منى خشن، الباحثة والمخططة في مجال التنمية الحضرية أنها لا ترى وفق اقتراح القانون، أي استقلالية للمزارع بل تدميراً ممنهجا وتهديدا بإلغاء وجوده بشكل تام. إذ أن السياسات الكبيرة الاحتكارية ستدفع بالمزارع إلى أن ينظر إلى أرضه كقيمة عقارية وليس كقيمة إنتاج غذائي، وليس كاستثمار مستدام له ولعائلته وأحفاده. وتضيف الخشن: “عند عجزه أمام الديون سيُحبط وعائلته ويُصابون بالكآبة، وغالبا ما يبيع أرضه لكبار المستثمرين.” وتعدّ د.خشن كل هذه الثورة الخضراء التي تأتي تحت شعار تنظيم البذور أو تحسين أصنافها أو التكنولوجيا ومواكبة التطور بمثابة هيمنة تضرب مصالح صغار المزارعين وكل خبرتهم التقليدية وكيفية تناقلها، وتؤكّد لـ “المفكّرة”: “الإطار أكبر من موضوع البذور بل فيه استيلاء وسيطرة على الاقتصاد الأخضر والأراضي، لتعزيز سيطرة الرأسمالية.” وتشدد على أن ما نشهده: “وجه من وجوه الإستيلاء الأخضر الذي يأخذ ألوانًا وأشكالًا عديدة. إنه استيلاء على مصدر الحياة.” 

  1. ضحايا حرب البذور أكثر من 300 ألف مزارع
تصوير كورين جبّور

وفي سياقٍ موازٍ، توضح سارة سلوم، رئيسة الحركة الزراعية وعضو المكتب التنفيذي للشبكة العربية للسيادة على الغذاء، لـ “المفكّرة” أنّ: “هذا الاقتراح يبدو تكريسا لنظام UPOV، وكأن تعزيز الهيمنة والاحتكار وتطبيق إملاءات المنظمات الخارجية هو أبرز الأسباب الموجبة، وليس ما يتم الادعاء به”. وتلفت سلوم إلى خطورة تسجيل الأصناف والتوجّه إلى تكريس حقوق الملكية، وتستعرض في حديثها تجربة الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة، (UPOV) المؤسس بموجب الاتفاقية الدولية لحماية الأصناف النباتية الجديدة، التي اعتُمدت في باريس عام 1961، وعُدِّلت تباعا.”

وتوضح سلّوم أنّ الاتّحاد الذي شمل قرابة 79 دولة، أوكل مهمة إنشاء وتعزيز نظام فعال لحماية الأصناف النباتية، إذ كان يسمح تعديل 1978 للمزارعين بحفظ جزء من البذور وإعادة زراعتها. أما عام 1991 فقد كانت نقطة التحوّل وبدأ يتكرّس الاحتكار الحقيقي للبذور ليشمل إنتاجها وبيعها وتخزينها وحتى استخدامها كمواد أولية. وعليه، تمّ منع المزارع من حفظ أو تبادل البذور المحمية (حتى داخل مجتمعه) بدون إذن أو ضمن شروط ضيقة، كما ومنحت حقوق حصرية كاملة للشركات، حيث تمكّنت شركات كبرى من فرض السيطرة القانونية على سلاسل الإنتاج الزراعي. وهكذا بات نظام UPOV أداة تشريعية تكرّس احتكار البذور وتضعف حق المزارعين التقليديين في حفظ وإعادة استخدام البذور، ويبدو أن المشهدية نفسها بدأت تكرّس في لبنان.

وفي المقلب الآخر، تشير سلّوم الى ولادة ما يعرف بـ Anti UPOV، الذي يشمل آلاف المزارعين والفلاحين ضمن تحالفات ومنظمات عالمية متعددة، حيث تطلق حملات مناصرة ومقاومة قوية ضد أنواع الاحتكار، حمايةً لحقوق المزارعين والبذور التقليدية.   

وعلى ضوء كل ما تقدّم، تعتبر سلّوم أنه يتمّ الضغط على السلطات اللبنانية وغالبا بتوصيات من شركاء دوليين مثل فاو والاتحاد الأوروبي وCIHEAM Bari لاستصدار قوانين متوافقة مع المعايير الدولية، وشرعنة الاحتكار ضمن القوانين المحلية، وتكريس حماية محلية لحقوق مربي النباتات ومنحهم حقوقًا حصرية لاستغلال بذورهم وأصنافهم الجديدة. ما يمنح بالطبع شركات البذور الكبرى سلطة أكبر وأرباحًا مالية على حساب صغار المزارعين والسيادة الغذائية.

الأخطر وفق مؤسسي الحركة الزراعية وائتلاف الزراعة البيئية في لبنان، والذي يجب التحذير من تداعياته الكارثية، هو “التلقيحات المتبادلة cross pollination”. إذ سيشكّل وفق الخبراء منح حقوق ملكية على البذور “خطرًا دائمًا على البذور والمزارع ” 

وتشرح سلّوم لـ “المفكّرة” أنّه: “عند انتقال حبوب اللقاح بين صنف من بذور مهجّنة أو معدّلة وراثيا محمية بحقوق ملكية، إلى صنف بلدي أصيل، سواء عبر الرياح أو الحشرات أو تلقيح غير مقصود. وفي هذه الحالة تأتي الشركة صاحبة حق الملكية، وتشتري محاصيل المزارعين الذين سبق وأبرموا عقودًا زراعية معها، أما المزارع غير الموقّع معها والذي حصل تلقيح متبادل مع محاصيله ولو عن غير قصد، فتضع الشركة يدها على المحاصيل وتسلبه إياها عبر المحاكم، كونها من يملك حقوق الملكية الفكرية للبذور كدليل على حقها الحصري.” وتحذّر سلّوم: “مئات آلاف المزارعين انتحروا جرّاء عجزهم عن إثبات حقهم بإنتاجهم في مواجهة حقوق الملكية الفكرية، وعليه دمّروا مع خسارة محاصيلهم وأموالهم ومن ثم أرضهم، مصدر عيشهم.” 

وبدورها تحذّر كورين جبّور من انتهاج التجارب المأساوية التي يحاول من خلالها النظام العالمي السيطرة على نظام البذور. وهي تستشهد بالهند حيث روّجت الصيدليات الزراعية من خلال حملة تسويقية كبيرة لبذور تحت شعار رفع الإنتاجية مع منح دعم مادي، من دون أن يخيّل لأحد بأنهم سيخسرون عددًا هائلًا من البذور الأصيلة وغير الهجينة، وعليه علقوا بدوامة الشراء الدائم للبذور ودائرة الاقتراض، لأن البذور الهجينة معدّة بشكل لا يسمح ب “أن تشيل منها بذور لمواسم قادمة، يعني كل سنة بدّه المزارع يشتري بذور من أول وجديد!” 

وتخلص جبّور: “هكذا رزح المزارع تحت رحمة تسعيرة البذور المفروضة من قبل الشركات والتي غالبا ما تكون بالعملات الأجنبيّة. وهذه البذور تتطلّب دعمًا بمبيدات وأسمدة كيمائيّة مختلفة لتحقيق الإنتاجية المرتقبة، ما يعني مزيدًا من التكاليف التي كان المزارع بغنى عنها، ومزيد من التلوّث لمصادر الحياة (تربة ومياه..) وانحدار للقيمة الغذائية”.

ومن جهته، لا يتردّد أنيس حداد في التعليق: “أكيد مع بذورنا المهجّنة ما في المزارع ياخد بذور منها، أصلًا يتضرر إذا أخذ منها، ما بتعطيه.” ويشاركنا: “بس للمعلومات كلفة البذور بالزراعة بتشكل بس 5%” ويتساءل جاي توفّر 5%؟  يروحوا يشوفوا طن الكيماوي 1700$ بيدفعها مثل الأرنب المزارع.”

وتأسّف جبّور: “الأمر ليس بمزحة. فإن مفهوم تسجيل البذور واحتكارها أدى إلى انتحار آلاف المزارعين في أكثر من بلد، والتاريخ شاهد على هذا. في الهند وحدها، تم تسجيل انتحار ما يزيد عن 300 ألف مزارع. إن هذا المفهوم لا يقتصر على التسبب في انتحار جماعي للمزارعين، بل ينسف أيضاً السيادة الغذائية للبلاد.” وتتساءل: ” أليس من الأجدى أن نتّعظ؟”

تلقيح بالنحل، (تصوير شارلوت جوبير – بذورنا جذورنا)
  1. فتح الباب أمام ” تملّك الحياة” وتجريم المزارع

تستنكر جبّور أن يمنح أيّ نص قانوني حقوق ملكية على البذور، على اعتبار أنّ أيّ امتلاك للحمض النووي للكائنات الحية، هو تملّك لمصدر الحياة. وتصف جبّور منح حقوق الملكية الفكرية بمثابة “عقوبة إعدام” بحق صغار المزارعين والمشاتل سواء للمنتجات الزراعية والغذائية أو النباتية، لصالح الشركات الكبرى، ومن يملك الموارد كافة للتسجيل. “في ثمانينيات القرن الماضي، فتحت الزراعة الصناعية بابًا خطيرًا من خلال مفهوم جديد: تسجيل الحياة كملكية خاصة. لم تعد البذور تُعامل كمشاعٍ عامّ كما كانت لآلاف السنين، ولا كسلعة عادية تُباع وتُشترى، بل أصبحت “اختراعًا” يمكن احتكاره من خلال براءات الاختراع. هذه الخطوة لم تمثل مجرد تحوّل اقتصادي، بل كانت نقطة تحوّل أيديولوجي عميقة، حولت كائنات حية لها تاريخ طويل من التطور (ملايين السنين)، إلى شيء قابل للتملك وادعاء أنه “اختراعهم”. إن فتح هذا الباب في بلادنا اليوم يمثل خطراً حقيقياً على سيادتنا الغذائية.”

ومن جهة أخرى، توصّف جبور الإجراءات المشروطة تحت طائلة التجريم من الحصول على الرخصة، إلى الفحص المخبري والتسجيل والتوضيب وفق معايير ومواصفات وملصقات مشروطة، بالأمر المرهق، والذي ينسف أوضاع أكبر شريحة من السكان والأكثر هشاشة وضعفا والتي يستوجب دعمها.

  1. مخالفة نصوص الاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها لبنان

تضيء جبّور في حديثها لـ “المفكّرة”، إلى مناقضة الاقتراح للمعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة، والتي تنص على تشجيع ودعم جهود المزارعين ومجتمعاتهم المحلية والأصيلة بحسب ما هو ملائم لإدارة وصيانة مواردها الوراثية النباتية للأغذية والزراعة، كما تكفل مشاركة المزارعين في صناعة القرار. حيث تعزز المعاهدة الاستخدام المستدام للتنوع البيولوجي الزراعي والموارد الطبيعية الاخرى، بمشاركة المزارعين، ولا سيما في البلدان النامية، ودعم قدرتهم على استنباط أصناف متكيّفة بصورة محددة مع مختلف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والايكولوجية. وفي ذلك إشارة، بحسب جبّور، إلى أن: “الأصل في دعم المزارع وتشجيعه على إنتاج نباتات متكيّفة مع البيئة والظروف، لا العكس”. 

  1. عرقلة الممارسات التقليدية الحية للمزارعين

يحذّر ائتلاف الزراعة البيئية من أن الاقتراح يعيق بشكل فعلي الممارسات التقليدية للمزارعين في حفظ وتبادل البذور وتطويرها، مما يؤدّي إلى إضعاف شبكات البذور المحلية، التي هي أساس الحفاظ على التنوع الوراثي في الموقع الطبيعي، من خلال إجبار المزارع على العيش في ظل عبودية النظام الاحتكاري. وتشرح جبّور لـ “المفكّرة” أنّ: “تأصيل البذور لا يتمّ فقط بحفظها على الرفّ بل عبر تبادلها وتداولها وتناقلها، للحفاظ على قيمتها ككائن حي، ولتستمر بتطوير الحمض النووي الخاص بها مع تغيّر الظروف والتكيّف مع المتغيرات. فلا يمكن زراعة البذور التي كانت سائدة عام 1850، فجأة اليوم، إذ أن حمضها النووي آنذاك كان يحتاج التكيّف على مدار السنوات ليصبح مقاوما للأمراض والآفات الجديدة، وبالتالي الإجراءات المفروضة بمواد هذا القانون من شأنها عرقلة عملية الشراء والبيع والتبادل بين المزارعين لهذه البذور ما ينعكس شللا كاملا على عملية الحفاظ على هذه البذور الحيّة”. 

  1. الاقتراح ينسف فلسفة إدارة المجتمع للبذور (المشاع) ويعزز مركزية السلطة

يؤكد ائتلاف الزراعة البيئية على مبدأ “عمومية البذور: “تاريخيا، ومنذ آلاف السنين في منطقة الهلال الخصيب، عرفت البذور كمشاع، بمعنى أنه ملك الناس ويدار من الناس كمجموعات، إذ لا يوجد سلطة عليا تديره أو حتى تنظّمه. بل تقليديا، يتم تداوله بحرية، ويتم تأصيله وتحسينه باختيار الأفضل سنويا.” 

والملفت، بحسب جبّور أنه يتم اليوم سلب وتحويل هذه السلطة من الناس إلى لجنة مركزية في الدولة، ويتمّ وضع قيود وضوابط وآليّات للتداول بها، وكأنها خصخصة  ما هو مشاع،  ومركزية للقوة والسلطة بيد مرجع واحد، ناهيك عن تأرجح هذه السلطات بمهب الولاءات والمحسوبيات وموجات الفساد. عوض أن يلحظ القانون صراحة مهمة اللجنة بالتحقق من أصناف البذور الداخلة إلى البلاد ومنع دخول أي بذور معدّلة وراثية مثلا أو الشتول المستوردة التي غالبا ما تحمل آفات.. أو أن يتم اقتراح قانون من شأنه حماية وتكريس حق المزارعين في إدارة هذا القطاع، حقهم في إنتاج البذور وتداولها والتجارة بها كمشاع.”

وبدورها الحركة الزراعية في لبنان تؤكّد أن: “المشكلة تكمن بالبنيان الأساسي للسلطة وبنظرتها للمجتمع كتابع واستعباد يده العاملة لا رأي له في صناعة القرار.”

وعن التذرّع بتنظيف السوق من البذور غير المنتجة أو المشوبة بآفات، من جهتها تؤكد جبّور إمكانية ذلك ولكن عبر تشجيع العمل التعاوني، والتوعية والإرشاد.. ومن خلال آليات دعم للمزارع وضمانه وتعزيز شروط عمله ووضع سياسات تضمن وصوله للموارد الآمنة من مياه وتربة غير ملوثة، وحماية السوق من السموم والبذور العقيمة.. وإن كانت منتجة على المدى القصير، إلا أنها تستلزم دعمها بالسموم لتحقيق الانتاجية المطلوبة فتقتل التربة ومعها الإنتاجية على المدى الطويل. وليس من خلال منح حقوق ملكية على البذور.” وتستشهد جبّور بنموذج أو تجربة كوبا التي نجحت في ضمان وحماية السيادة الغذائية.

خبز تنّور من القمح البلدي، مزرعة بذورنا جذورنا (تصوير شارلوت جوبير)
  1. تهديد جودة الغذاء وسلامة الصحة العامة

وعن القيمة الغذائية والجودة، تؤكد كورين جبّور أن الدراسات التي أجريت على مستوى العالم، تثبت الفرق الشاسع بين تلك الموجودة في البذور والشتول البلدية والأصيلة مقارنة بالتي تنتجها الشركات، وتستهجن الممارسات التي تسمح وتعزّز وتعبّد الطريق أمام إنتاج البذور عوض الحفاظ على التنوع البيولوجي وسلامة الغذاء لتوفير غذاء آمن للناس، وبالتالي رفع مناعتهم، وحمايتهم من الأوبئة والأمراض، ما يقلّص الفاتورة الاستشفائية.”

يعترف أنيس حداد: ” أكيد كلو بدو كيماوي، بلدنا ما بعيش في شي بلا كيماوي… التربة عاطلة كتير”، وينبّه حداد:” ومش بس كيماوي، بدو أكيد يرش لأن الأمراض كثرانه والحشرات متزايدة وصار عندها مقاومة! يلي كنا نرشو كل أسبوعين صرنا كل أسبوع.” ويلفت في حديثه: “هودي المزارع عم يدفع فاتورتها هو ومبسوط لأن بيعرف ما في انتاج بدونن.”

ويضيف حداد: “ما بقى في حدا بالعالم بيزرع بذور بلدية غير ما يعرف بالـ NICHE MARKET من كل السوق العالمي، مثل باليابان لما تنباع البطيخة 1500 $، مزارع أو اثنين بعدن بيزرعوا أصناف فيها نكهة مميزة وجودة عالية. لا يمكن بالتالي أن نبني قوانين دولتنا عليها هذه الأسواق للإنتاج البلدي إن وجد”.

من موقعه، يستنكر سيرج حرفوش أن السوق البلدي للمنتجات ذات الجودة والنكهة، قد انقرض عالميا أو أنه ستبقى حكرا على الأغنياء، والتذرّع بأن سوق الهجين “المسموم” هو القادر على تلبية الحاجة لغذاء عامة الناس، تحت شعار ضمان ” الأمن الغذائي”. ويلفت حرفوش إلى أن سياسات داعمة وحمائية تضعها الدولة كفيلة بأن يكون سعر المنتجات البلدية ” الآمنة” بسعر أقل.

وعليه تشرح جبّور كيف تقدّم صحة الناس قربانا لصالح الشركات لتعمد إلى تسجيل بذورها والتمكّن من المنافسة المحلية والعالمية: “هكذا قوانين بمثابة عملية انتحارية، في ظل غياب ضمانات الحفاظ على البذور البلدية الأصيلة والمحلية ودعمها، وسن ضوابط واضحة تحرّم دخول البذور والشتول التي قد تشكّل خطراً على سيادتنا الغذائية. ناهيك، عن الأضرار الكارثية، على التربة والمياه والهواء، لأن بذور الشركات الهجينة تستلزم دعمها بمبيدات وكيماويات لتحقيق الإنتاجية. وبالتالي كلها خسائر مادية على موارد لبنان الطبيعية واقتصاد مزارعيه وصحة الإنسان، والسبب شرعنة كل المخاطر تحت عناوين التنظيم وزيادة المدخلات الزراعية والتكنولوجيا”.

وردًّا على الأطراف الرسمية التي قابلتها “المفكّرة” والتي تعتبر بأنّ التهجين بات أمرًا واقعًا، وبالتالي وجب تنظيم القطاع وأن هناك حاجة لسد متطلبات الأمن الغذائي، وأنه يستجيب للجوع، فيؤكد سيرج حرفوش من مؤسسي جمعية “بذورنا جذورنا”، والخبير في السيادة الغذائية والزراعة الإيكولوجية، أن هذا الكلام غير دقيق، خاصّة وأن إنتاج البذور المهجّنة ليس إنتاجًا لغذاء، بل لسلع وتدخل في مضاربات الأسواق العالمية، وبالتالي ليست حقًا بل سلعة منتجة. ويشدّد حرفوش أن ما يروّج عن البذور البلدية لكونها غير منتجة هو خاطئ، إذ يتم تقييم إنتاجيّتها في ظل الممارسات السائدة والمعايير التي يفرضها السوق، يشرح حرفوش: “لأنها تقيّم وفق معادلة: بذور هجينة + مواد كيميائية = أطنان من الإنتاجية، بينما إن بحثنا عن معايير الجودة والتنوّع، ففي مساحة الأرض عينها، تصبح زراعة أصناف مختلفة من البذور البلدية وبشكل مختلط، هي الأعلى من حيث الإنتاجية”. ويحذر حرفوش من استخدام المبيدات المفرط الذي يؤدّي سنة بعد سنة لتملّح التربة وموتها.” ويتساءل: “التفكير بالإنتاجية الأكبر ع حساب شو؟ البيئة؟ المياه؟ الصحة العامة؟ الأراضي التي ستبقى صالحة للزراعة، وعليه، قياس الإنتاجية ع حساب شو؟ ولأيّ مدى؟”. وعليه، يشدّد حرفوش على أنّ أيّ مقارنة بين البذور البلديّة والهجينة يُحتّم أن يتمّ وضع كلّ هذه المؤشّرات في الميزان، إذ حتى فاتورتنا الاستشفائيّة فيما بعد والأضرار التي تلحق بنا كلها مرتبطة بتقييم الإنتاجية.

 ومن البديهي بالنسبة لجبّور، أنه “إذا كانت التربة قد ماتت بسبب استخدام المواد الكيميائية، فمن الطبيعي أن تكون إنتاجية البذور البلدية أقلّ.” والسبب وفق جبّور أننا: “قد قتلنا كل حلفائها في التربة، وهي البكتيريا والفطريات التي تساعدها على النمو وإنتاج محاصيل غنية. وعليه، نحتاج إلى إعادة تلقيح تربتنا بهذه الحياة المجهرية حتى تتمكن البذور البلدية من أن تنتج المزيد، وعلينا أن نتوقف عن قياس الإنتاج بناءً على الكيلوغرام، ونبدأ بالنظر إلى القيمة الغذائية لما ينتجه النبات.”

  1. القانون يتبنّى رؤية اقتصادية ضيقة على حساب التنمية الشاملة

وعليه، يدقّ ائتلاف الزراعة البيئية كما الحركة الزراعية في لبنان ناقوس الخطر، وتنبّه جبّور إلى أن هكذا قوانين تضعنا أمام مفترق طرق، ولحظة تفكّر، إما أن نقارب الغذاء وكأنه رفاهية، تماشي السوق ومتطلباته ومعاييره وإما مقاربة الغذاء كحق للشعوب.. إما مقاربة الإنتاجية وحفنة الأموال، وإما مقاربة حقوقية تشمل الحق في الغذاء الآمن وحق الشعوب في إدارة مواردها الطبيعية وإنتاج غذائها. وهي تحسم: ” فقط عند تحديد المقاربة يمكن تحديد البوصلة والمسار..”

وتتساءل جبّور: “إن تم القضاء على 1000 مشتل صغير، مقابل تطوّر مشتل واحد كبير أو تحقيق شركة واحدة لأرباح هائلة، فهل نخلص إلى أنه قد تمّ تحقيق نموّ اقتصاديّ نظرا للأرباح المحققة؟ المطلوب قياس التطور بالأرباح وإن تضاعفت نسبة التلوّث؟ أم بالتأثير على المجتمعات البشرية والبعد الاجتماعي للتطوّر؟ لذلك من المهم تحديد ماهية مؤشرات قياس التطور، وأدواته، وأي فئة يلحظ.”

  1. الاقتراح يهدد السيادة على الغذاء

بناء على كل ما تقدّم، أجمع خبراء الزراعة الإيكولوجية والسيادة الغذائية في ائتلاف الزراعة البيئية والحركة الزراعية الذين قابلتهم “المفكّرة”، أن إقرار هذا النوع من القوانين سيشكّل أكبر ضربة للسيادة الزراعية في لبنان. وعليه رصدت “المفكّرة” أن المناصرة لصالح السيادة الغذائية مدفوعة لمواجهة هذا القانون الذي يعد الأخطر. حيث يشدد المعنيون أن الضربة القاضية هي تلك التي تمسّ البذور، وكان للمساس بها عالميا نتائج كارثية قضت على المزارعين وعلى السيادة على الغذاء وأمنه وجودته، لصالح شبكة الشركات العملاقة المستثمرة. 

“المنهج المتبع هو استعماري بشكل جديد، بتْنا حديقة خلفية للتصدير لا أكثر”، يؤكد أبو سعيفان رئيس الحركة الزراعية في لبنان، ويلفت إلى الهواجس الجدية من اقتراض لبنان ملايين الدولارات لتطوير قطاع الزراعة، والتي سبق لـ “المفكّرة” أن فنّدتها بمقال خاص. 

ومن جهتها سارة سلّوم، تستشهد بتوصيف المقرر مايكل فخري، حول غزة وتحديدا توصيفه لتجويعها بالممنهج والبطيء، والذي بدأ أولا من خلال إبرام عقود زراعية وإرساء ممارسات تشجع على ترك البذور البلدية على اعتبار أنها غير منتجة، ومن خلال تسويق لبذور F1 المهجّنة. وتحذر سلوم: “كل الموارد محتلة: أرضك وبذورك ومياهك وشمسك وجهد وعرق جبين الناس وتراثك الزراعي كلها محتلة للتصدير.. دون أي قيمة تذكر”.

ويتساءل حرفوش، من زاوية أخرى : “كيف يزعمون تحقيق السيادة والأمن الغذائي في ظلّ سياسة زرع البذور الهجينة، التي تلزمها المبيدات والأسمدة التي لا نصنعّها في لبنان. ناهيك عن أن الأطنان المنتجة والتي تفتقر حتمًا للقيم الغذائية.”

تلفت جبّور إلى أن التركيز غالبا ما يتمحوّر على الجانب التجاري والتصديري بدلاً من سيادة الغذاء، إذ تهدف عملية التصديق على البذور إلى خلق منافسة في السوق العالمية بدلاً من التركيز على السيادة المحلية، وتشجيع المزارعين على زراعة بذور للتصدير بدلاً من إنتاج الغذاء، في الوقت الذي نتعرض فيه، بوجود مطار واحد، وميناءين للاستخدام التجاري، وثلاثة معابر حدودية مفتوحة، لخطر فقدان الوصول إلى السلع المستوردة في حال وقوع حرب أو اضطراب في التجارة.” وتضيف: “بعد ملاحظة جائحة كوفيد، والمجاعة القسرية في غزة الآن، قد يظن المرء أن جيران إسرائيل على الأقل سيتعلّمون قيمة سيادة الغذاء، والتحرر من الاعتماد على أي واردات لإنتاج الغذاء، أو الصادرات للدخل”.

  1. أبعد من التوثيق والكاتالوجات وحقوق الملكية.. الحرب “حرب البذور”
قمح بلدي عراقي، ذقن سوداء – بذورنا جذورنا (تصوير شارلوت جوبير)

إن التاريخ لَشاهد على نضال الخبيرة الزراعية الهندية “فاندانا شيفا” ضد ما تسميه “عبودية البذور” التي باتت تخضع المزارعين والمجتمع والحكومات لنفوذ خمس شركات عملاقة تملك أكثر من نصف بذور العالم المخصصة للزراعة، بل وانها تملك حق الوصول إلى البذور التي يحتضنها مصرف البذور، والتي تحفظ الدول بذورها فيه، تحسّبا للكوارث كما يروّج. إلا أن الأبحاث والتقارير والدراسات المتعددة على الساحة العالمية تنبّه من خطورة الحرب الصامتة التي تشنّها الشركات الاحتكارية على الدول، فالمخاوف حقيقة لجهة أن الحرب ضد الإنسانية لم تعد حربا على النفط والماء، بل حرب على البذور والغذاء.

وإن التعمّق في قضايا النضال بوجه حرب البذور أو عبوديتها، يكشف بجلاء النفوذ الذي تتمتّع بها هذه الشركات التي تجبر الدول، بطرق متعددة مباشرة، أم ملتوية أو تحت غطاء الدعم التقني أو التمويل للمشاريع التطويرية إلى سن القوانين والتشريعات التي تفرض نظام تسجيل الأصناف والأنواع والسمات ضمن كتالوجات ومن ثم تكريس حقوق الملكية الفكرية.. وهكذا تكر سبحة الإجراءات “البريئة” إلا من الاحتكار.

“صار في عمل مسودة قانون جديدة” بهذه العبارة يوجز وزير الزراعة نزار هاني لـ “المفكّرة” ما يحصل، ولكن في ظل التحفّظ على مشاركة النسخة المعدّلة التي تم التوصّل إليها حتى الساعة، ما استطاعت هذه العبارة أن تبرد قلوب مناصري الزراعة الإيكولوجية وخبراء السيادة الغذائية والعدالة البيئة والاجتماعية.

وكأنّ إعلان العمل على مسودة جديدة، في بلادنا، ما عاد كفيلاً بتهدئة النفوس أو ببث شعور الأمان، مع سلطة تنتهج إفراغ القوانين من جوهرها، أو نسفها وتلغيم موادها، وإن في لحظاتها الأخيرة قبيل الإقرار أو التصويت عليها. كيف الحال ان كانت المسودة الأساسية بمثابة “ورقة إعدام للسيادة الغذائية” مثلما وصفها البعض. إلا أن الوزير هاني، رغم تخوّفه من تداعيات نشر النسخة قبل وصولها إلى الصيغة النهائية، فقد وافق على أن يزوّدنا فريق عمل الوزارة المطلّع بأعمال اللجنة ومضمون التعديلات الجارية على اقتراح القانون.

ويضيف هاني: “ما نحاول القيام به لأن لبنان بلد صغير وما عنا مساحات زراعية كبيرة، وما منقدر أن ننافس الدول اللي عندها مساحات هائلة، .. يمكننا المنافسة بالزراعات النوعية وعلى رأسها زراعة البذور.” ويتابع : فلننظر بالعالم شو عم يصير وقدي في potential كتير كبير بالبيئات المختلفة من لبنان بين جبل لبنان والداخل والساحل..” ويختتم: “هودي بيفهم فيهم أنيس حداد، ويخبرك عن الصعوبات والـ potential  الموجود.” وأكّد هاني لـ “المفكّرة” أنّ كل البذور النباتية البرية محفوظة في بنك البذور، وأنه لدينا عينات ثانية في kew gardens، وأن لبنان من أكثر الدول التي جمعت عينات بذور وحفظتها في Millennium Seed Bank”. 

وفي المقلب الآخر، لدى سؤال حداد عن الصعوبات، أشار إلى التكلفة العالية التي تتكبّدها الشركة الوحيدة في لبنان بإنتاج البذور المهجّنة، في ظلّ غياب حقوق الملكية الفكرية على البذور في لبنان، بحيث يضطر للإنتاج في تايلاند ومن ثم يشحن البذور إلى لبنان لتنظيفها، ومن ثم قبل تسويقها، يرسل عيّنات منها إلى مختبرات أميركا لفحصها، إذ لا مختبرات مخصصة لذلك. ما يمنعه من التطوّر وتحقيق الأرباح مقارنة بمنافسيه العالميين: “مختبراتهم بقلب شركاتهم ومعتمدة ومعترف فيها”، بحسب حدّاد.

ويؤكّد حداد أهمية استثماره في قطاع البذور المهجّنة، معلناً: “60 مليار دولار سنويا، قيمة فاتورة البذور الهجينة التي تستوردها دول الجامعة العربية من الشركات الأجنبية.”

تواصلت “المفكّرة” مع منى سبليني، رئيسة مصلحة البستنة والمحاصيل الحقلية، لكونها عضو في اللجنة المناط بها صياغة الاقتراح الجديد، لمعرفة ماهية الجهود المبذولة في تنقية وغربلة اقتراح النائب حميّد: أبرز ما تم نسفه، تـعديله، أو الإبقاء عليه. 

وقد أكّدت سبليني أنه قد تم دعوتها للاجتماع القانوني الأخير للتوصّل إلى الصيغة النهائية، وشرحت لـ “المفكّرة” أنّ ” القانون قديم، أظن يعود لعام 2012، والواقع أنه لم يكن سيئاً، ولكن عندما عرضناه على المعنيين من أصحاب المصالح، استوقفتهم نقاط كثيرة واعترضوا عليها. مثال: كان في عقوبات على كيفية التخلّص من العبوات وكأنها أمور خطرة، وهي ليست كذلك، بل ينطبق أكثر على المبيدات.. “

تصرّح سبليني لـ “المفكّرة” أنه قد تم سحب اقتراح حميّد لأنه كرّس حماية الأصناف المنتجة وتكشف: “حذفنا ذلك”، وتضيف:” لن نمنح حماية للأصناف، فهي تتعلّق بالملكية الفكرية والتي تحتاج لقانون آخر، وتوجّه آخر، فضلا عن أنها تخضع لاختصاص وزارة الاقتصاد.” 

وتضيء سبليني على أن أهمّ ما في القانون هو “تنظيم كل من يعمل في هذا القطاع، من ينتج البذور، من يوزّعها ويتاجر بها ويستوردها… لتتمكن الوزارة من معرفتهم، ولينظّم لهم نوع من البروفايل أو الترخيص المعين.” وتوضح سبليني أن غاية القانون بالدرجة الثانية هي توثيق الأصناف، أنواعها ومميزاتها..” والهدف بحسب سبليني: “ليس منح حق حصري، بل اقتصادي لمعرفة شو عم ينزرع.. لأن كل دولة يجب أن يكون لديها السجل الوطني للأصناف لأهميته للتصدير”. وتضيف سبليني: “الدول هلق هيك ماشية”.

كما أشارت سبليني إلى أن التفاصيل تركت للجنة سيتم تشكيلها بموجب القانون. ولدى سؤالها عن تسجيل ظهور الأصناف الجديدة، أوضحت: “لا أعلم كيف سيسجّل.. غدا اللجنة تقرر.” وأكّدت لـ “المفكّرة” أنه تم تخفيف حدة العقوبات المفروضة بالنسخة المعدّلة، ولكنها سرعان ما استدركت: “بس حتى هذا القانون يفرض أن لا يتم زرع أصناف من خارج السجلّ، إلا إذا كان عند المزارعين بين بعض.. حتى ما تطلع الفلة بالمزارع”. وتفيدنا سبليني أن الصيغة المستحدثة تكرّس “تراخيص أو إجازات”، لتوثيق البذور certification: “الغاية، أن يصبح في لبنان بذور وشتول ومواد إكثار موثقة. لتمنح المزارع ثقة بأن الصنف “مزبوط” مطابق للمواصفات وخالٍ من الأمراض.”

وفي السياق عينه، يؤكد د. بيتر مبارك، ممثل المركز الدولي للدراسات الزراعية العليا لدول حوض البحر المتوسط – بباري إيطاليا. ومنسّق مشروع ” بذور لبنان Seed Lebanon 2024- 2025، المدعوم من الحكومة الإيطالية، بالتنسيق مع وزارة الزراعة ومصلحة الأبحاث، أن: المشروع يقضي إلى وضع قانون لتنظيم قطاع البذور ليتوافق مع المعايير العالمية. كما يلحظ المشروع تجهيز وافتتاح مختبرات زراعية يحتاجها القطاع، وأنه تحديدا قد وصلت المعدات هذا الأسبوع، كهبة لمصلحة الأبحاث الزراعية في البقاع – LARI. وأوضح مبارك أنه سيصار ضمن المشروع نفسه إلى تدريب الموظفين لاستعمال المعدّات المستقدمة والمتطورة تكنولوجيا فتأتي بنتائج على قدرٍ عالٍ من الدقة والتطوّر. علما أن هذه المختبرات وفق مبارك: ” قادرة تعمل كتير أشياء ولكن ليس كل شيء.” 

ويعرب بدوره د. مبارك عن أهمية وضرورة إقرار حقوق الملكية الفكرية على البذور لتنظيم القطاع: أما أن يلحظه هذا القانون يجيب مبارك: “تحت مظلة الزراعة أم الاقتصاد، ومين عندو إمكانية وفريق لتنظيمها ومين قادر يحملها؟  انه خيار الدولة اللبنانية.”

ذرة مؤصّلة (تصوير شارلوت جوبير – بذورنا جذورنا)

لدى سؤالها عن اقتراح القانون، علّقت جويل بريدي، مديرة بنك البذور في لبنان: ” شخصيا ما شفته، بس رح راجع يلي بيشتغلوا بمجال البذور بالمصلحة إذا حدا منن اطلع عليه”، وسرعان ما تضيف:” لأن المزارع أساسا معتّر بعد بدنا نزد له تعتيره؟” وتتمنى أن يصل الاقتراح الى كل المعنيين في الوزارات لإبداء الملاحظات ودراسة كل حيثياته وأبعاده.” 

واللافت في المقابلة التي أجريناها مع مديرة بنك البذور حديثها عن الإهمال التاريخي للقطاع وتحديدا للبذور البلدية. فهي تروي لنا: “تأسس بنك البذور سنة 2013 ولليوم أنا منّي مكلفة الدولة اللبنانية “فرنك” عليه، إذ أعتمد على التمويل الخارجي.” وتطلق صرختها: ” لنستمرّ بدّه يكون في دعم لبناني لبنك البذور، قبل المزارع بدها تكون الدولة عارفة قيمة بنك البذور الموجود ودوره وأن تخصص له سنويا تمويل واعتمادات، لأن تشغيله بحاجة لتكلفة، لإغناء المدخلات بشكل دائم وحفظها وتجديدها، لا أن تحفظ فقط على الرف.” 

وتوجز بريدي لـ “المفكّرة” حقيقة المشهد: “الأهم أن نصل للمزارعين.. بدها توعية أكبر.. بس ما عم يطلعلنا دعم مالي أبدا”. وتنبّه إلى تداعيات ذلك: “الاتكال عطول على مشاريع تمويل من برا، ولكن بالطبع عندها أهدافها وبصير مجبورة حققها، واشتغل شو الجهة الممولة طالبة، واشتغل لطوّر حالي بمعادلة: فيد واستفيد.”

 كما وتوصّف بريدي الاستيلاء الممنهج الذي يتمّ، وتوضح:” القصة تاريخية وليست وليدة الأمس، فإن الدول التي تملك المصادر الوراثية هي دول العالم الثالث، وهي تفتقر للموارد العلمية والمادية. وعليه منذ سنوات تذهب مواردنا ومصادرنا للدول الغنية كونها تملك رأس المال والـ know how.” والحقيقة النهائية وفق بريدي: “بياخدو مصادرنا وبيرجعوا يبيعونا البذور.” وتتأسّف بريدي: “في لبنان وغير دول بالعالم الثالث في جهل، وتاريخيا منحت مصادرنا من دون مقابل والدول بتطورها وبتجي تبيعك ياها، وهي آخذتها من عندك.” 

وبانتظار اطّلاعها على الاقتراح في صيغته المعدلة، تخلص بريدي إلى ضرورة دعم المزارع ومنحه حقوقه لا أن نحجمه، أو نكبّله بإجراءات وشروط يصعب تحمّلها. وفي الوقت عينه، هي تنوّه بضرورة التنظيم وأن لبنان لكونه موقّعا على الاتفاقيات الدولية، فلا بد من السير بالمعايير العالمية ولكن مع صون حقوق المزارعين.

ولدى السؤال عن جدية التوجّه لإقرار حق الملكية الفكرية على البذور تحت مظلة وزارة الاقتصاد، تحفّظ د. محمد أبو حيدر مدير عام وزارة الاقتصاد، عن الإدلاء بأي تصريح في هذا الشأن كون القانون غير مطروح حتى الساعة. ولكن يوضح أبو حيدر لـ “المفكّرة” أنّ “لبنان اليوم بصدد تطوير كل المعاهدات (النصوص) التي تتعلّق بحماية الملكية الفكرية، وبصدد إعداد مشروع قانون يتعلّق بحقوق حماية البيانات الجغرافية، التي هي جزء لا يتجزّأ من تنمية الصادرات للخارج وحماية أصل المنتج ومصدره.”

تفتح سبليني في تصريحها نافذة، من الجدير التوقّف عندها، إذ تصرّح لـ “المفكّرة” أن: “هذا القانون للسوق الرسمي”، وتميّز سبليني: “السوق الرسمي.. لتشجيع الناس تشتغل وتحفظ حقوقها وواجباتها تحت سقف القانون. أما السوق غير الرسمي فسيبقى المزارع قادر على أن يزرع وينتج البذور ويتداولها ويبيع دون أن نتدخل.” وتتعاطف مع المزارع وتقول: “حرام ما رح نحدّ المزارع بمتنفسّه، هيدا حقه، وأوقات هالشي بحسّن الأصناف.” وتعود سبليني لتؤكد: “أما السوق الرسمي لكل من يريد أن يتاجر يجب أن يكون مسجّلا، وأن يوثّق إنتاجه.. وأن يدخل في الكتالوج.” 

ولدى سؤال منى سبليني عن مشاركة أصحاب المصالح المعنيين، تؤكّد: “ستعقد ورشة عمل لإطلاع عدد من المعنيين عليها والاستماع لهم، كخطوة أخيرة.”

وهنا، يسجّل ائتلاف الزراعة البيئية في لبنان كما الحركة الزراعية انتقادهم للعملية التشاركية، والتي يبدو أنها لا تتعدى الشروط الشكلية. وتوضح الخبيرة كورين جبّور في هذا السياق: أن العملية التشاركية ان لم تكن أفقية حيث تشمل المجتمع المدني والمزارعين وأصحاب المشاتل والتجار..  تفقد جوهرها وقيمتها، وتبقى فلكلورية، رمزية.” 

إن العملية التشاركية تتطلب منح صاحب المصلحة صوتا حقيقيا، تؤكّد جبّور، وتعتبر أن أولى الإشارات السلبية بهذا المجال كان صعوبة معرفة المعنيين بما يجري خلف الكواليس، أو الإحاطة علما بالتعديلات، في حين أن أصحاب شركات أو منظمات أجنبية على علم بتفاصيل الاقتراح بل وممثلة في اللجنة التي تعمل على التعديلات، ويتم استشارتها، بل اعتبرت جزءًا من إعادة صياغة تفاصيله وأبعاده، في حين أن اللاعبين الأساسيين والذين يمس القانون بحياتهم وعيشهم، المزارعين، هم حتى هذه اللحظة خارج الصورة ولا صوت لهم. وفي حال تمّت دعوتهم في المراحل الأخيرة للمشاركة في إطلاق الاقتراح، فإن هذه الدعوة لن تعدو كونها إشراكًا فلكلوريًا ورمزيًا ليس أكثر. 

مكتبة البذور، بناء تقليدي بالطوب، مزرعة بذورنا جذورنا (تصوير شارلوت جوبير)

ويسجّل فيما يتعلّق بقدرة مختبرات لبنان الرسمية والخاصة، أنه وحتى الساعة قادر على تحديد الأصناف، أما إن أقرّت حقوق الملكية الفكرية، فإن: “مختبرات وحدة المصادر الوراثية النباتية في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية (تل عمارة) قادرة على التمييز بين الأصناف باعتماد الخصائص المورفولوجية والجزيئية (تبعا لأوزان حزم الحمض النووي) ولكنها بحاجة إلى تجهيزها بـ sequencer، والمواد الكيميائية المطلوبة من أجل دراسة تسلسل الحمض النووي لكل صنف أو مدخل بالاضافة إلى الحاجة للتدريب في هذا المجال، وفق ما أفادنا به د. علي شحادة، رئيس وحدة المصادر الوراثية النباتية في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، ونقطة الاتصال الوطنية للمعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة.

وللإحاطة بموقف مصلحة الأبحاث العلمية من إنتاج البذور المهجّنة، فقد شدد شحادة على أهمية استنباط أصناف جديدة ذات إنتاجية عالية لتأمين الأمن الغذائي للعالم “بالآخر بدك تطعمي العالم.”  بالإضافة إلى الحفاظ على الأصناف البلدية والتقليدية كونها تتحمّل التغيرات المناخية الحاصلة في بلادنا.

وقد أوصى شحادة: “قبل إقرار قانون حقوق الملكية الفكرية على البذور والأصناف المهجّنة، هناك ضرورة لإقرار مشروع قانون إدارة الموارد الوراثية النباتية المقدّم من المصلحة والذي سبق وأقر في مجلس الوزراء بتاريخ 5 أيلول 2019، كونه سيشكل ضمانة وحماية لحقوق المزارعين (المادة 2، 15، 16)، وذلك تماشيا وتنفيذا للمعاهدة الدولية بشأن الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة”.

كما يلفت شحادة إلى أن أبرز ما يضمنه مشروع قانون إدارة الموارد، التالي: 

– حقوقهم في المشاركة في إتخاذ القرارات المتعلقة بصون وإدارة وحفظ وتنمية وتطوير وتبادل الموارد الوراثية النباتية للاغذية والزراعة واستخدامها المستدام.

– المشاركة في لجنة الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة.

– حقوقهم في الاقتسام العادل والمنصف للمنافع الناتجة عن الاستخدام التجاري للموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة… وسواها.

وفي السياق نفسه، وبحسب أحكام المعاهدة، يوصي شحادة بضرورة حماية أصناف المزارعين المستخدمة للأغذية والزراعة، حيث تقوم السلطة الوطنيّة باستحداث سجلّ وطنيّ خاصّ لسلالات وأصناف المزارعين المستخدمة للأغذية والزراعة والمعارف التقليدية والممارسات المرتبطة بها. وأن تقوم بإنشاء وتطوير خطط وآليات لحماية أصناف المزارعين من استخدامها في عمليات الاستنباط الوراثي من دون موافقتهم المسبقة، وذلك وفقاً لقانون حماية الملكية الفكرية. ولا شكّ بالنسبة لشحادة من أننا انتقلنا من زمن كانت فيه البذور مشاعًا وحقًّا للناس إلى زمن سيادة الدّول على بذورها ومواردها الوراثية.

وكأنما المعاهدة أقرّت على قاعدة منح المزارعين والدول فتاتا من الرغيف الذي سرق منهم باسم التشريعات، فتأتي موادها للاعتراف بالخلل الهائل الحاصل والتناقص الحادّ في المواد الوراثية، والإقرار بحقوق المزارعين التي سلبت ودورهم الأساسي في التنوّع البيولوجي. إذ تحاول نصوص المعاهدة إعادة شيءٍ من التوازن، من جهة عن طريق “إنشاء نظام عالمي لتمكين المزارعين والمربّين والعلماء من الحصول على المواد الوراثية النباتية”، بعد أن كانت “ملكهم العام” ومشاعًا تولّوا حسن إدارته وتطويره وتناقله والحفاظ عليه لأجيال غابرة، ومن جهة عن طريق ضمان تقاسم متلقّي المواد المنافع الناشئة عن استخدامها.

وبالتالي، لا تستهجن جبّور أن تكرّ سبحة التشريعات خدمةً للنظام الاحتكاري نفسه، وهي تتنوّع بتنوّع الغاية منها، إنما ضمن الفلسفة نفسها. وهي تلفت إلى المخاطر التي تشوب مشروع قانون إدارة الموارد الوراثية النباتية، والذي أعدّته مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، لكونه يؤسّس لنظام مدمّر للسيادة على الغذاء. وعوض أن يشكّل القانون عملًا من أعمال السيادة، يغدو احتكارًا للموارد الوراثية بيد الشركات والدول، وأنه يحول الخير العام (البذور) إلى أصول تسيطر عليها الدولة بهدف خصخصتها. 

ولحظ جبّور أن في مشروع القانون تجريدًا للمزارعين من ملكيتهم التاريخيّة، حيث لآلاف السنين كان المزارعون هم مربّي النباتات الأساسيين والأوصياء على التنوع الوراثي. فيما يؤكد هذا القانون “المنتظر” أن جميع الموارد الوراثية النباتية هي “ملك للدولة”، مما يجرد المزارعين بشكل أساسي من تراثهم الفكري والثقافي ويحولّه إلى مورد مؤمّم، وينقل السلطة إلى الهيئات الحكومية (اللجنة). ما يحول الحق إلى نشاط مراقب ومسيطر عليه، مما يزيد من تهميش المزارعين وتقويض ممارساتهم التقليدية المتمثلة في حفظ البذور وتبادلها. ناهيك عن أن العديد من التقارير والأبحاث والقضايا العالمية أثارت موضوع مدى فعالية تقاسم المنافع أو المشاركة الحقيقية للمزارعين، والتي لا مجال هنا للغوص بها. 

كما ترى جبّور بأن الترويج مستمرّ لوهم الندرة المبتدع، إذ ينتج لبنان كميات كافية من أنواع عديدة من الخضروات والفواكه لإطعام سكانه (الزيتون، الطماطم، الخيار، الكوسا، البطيخ، البازلاء، الفاصولياء، البصل…)، وكميات فائضة من بعض المحاصيل (البطاطا، التفاح، العنب، الموز، الليمون، اللوز، الخوخ…) ولا يحتاج سوى استيراد بعض المحاصيل (القمح، الذرة، العدس…) لتحقيق الاكتفاء الذاتي. وعليه إنّ الادعاء بعدم وجود ما يكفي من الغذاء، والحاجة إلى الإنتاج الصناعيّ لإطعام الجماهير، هو وهمٌ زائف للندرة، بل تخويف وهميّ يهدف إلى السيطرة على الناس. والمشكلة الوحيدة أن معظم إنتاجنا موجّه نحو التصدير، رغم هشاشة أمن حدودنا البحرية والبرية. 

دوار الشمس العملاق، مزرعة بذورنا جذورنا (تصوير شارلوت جوبير)

وعليه، عند هذا المفترق الخطير، قبيل ولادة قانون تنظيم قطاع البذور.. أو القوانين المتعلّقة بالملكية الفكرية على البذور وإدارة الموارد الوراثية النباتية، يثار قلقٌ حقيقي حيال صغار المزارعين، بخاصة عندما يعرب من هم في مواقع السلطة والقرار، أن البذور الهجينة باتت مطلوبة وموجودة عالميّا كأمرٍ واقع، ما يفرض تلبية حاجات السوق والتّصدير، ولكونها منتجة وإن غير مقاومة، تحت ذريعة أنّ البذور البلديّة الأعلى من حيث الجودة والقيمة الغذائيّة أقلّ إنتاجية..

لا تستكين مخاوف المعترضين ولا يخفت صوت المناضلين في سبيل السيادة على الغذاء، حين تختتم معظم المقابلات الرسمية بتصريح أوحد، وكأنه الملاذ الأكثر أمانا: “لا أحد يمكنه إجبار المزارع بالبذور الهجينة أو تلك البلدية، فهو صاحب القرار وله حرية الاختيار”.

ومما تقدّم، يستوجب طرح السؤال التالي: من قال بأن المزارع مدركٌ لمخاطر البذور الهجينة على المدى المنظور والبعيد؟ وأين هو الإرشاد الزراعي والنقاش العامّ الكفيل برفع الوعي الجماعي للمزارعين؟ والأهم ما الحكمة من خصخصة مورد طالما كان مشاعًا للمزارع أو من سنّ قوانين وسياسات تضحي بسيادتنا الغذائية ومعها بصحّتنا وبيئتنا، من أجل خدمة شبكة من المصالح السياسيّة الاقتصاديّة الدولية كما المحلية؟ أسئلة سنواصل البحث فيها درءًا لما قد تسفر عنه مناقشات وزارتي الزراعة والاقتصاد واللجان النيابية من مخاطر اجتماعية قد تصيب أجيال الحاضر كما المستقبل.   

أماني البعيني\ لبنان

  • نُشر هذا المقال في موقع المفكرة القانونية. لقراءة المقال الأصلي: اضغط هنا