لماذا يبدو الاكتفاء الذاتي الغذائي أمرًا معقولًا؟



لا يحتاج المرء سوى لحِسٍّ منطقيِّ سليم حتى يُدرك العيوب الحقيقية لإدماج النُظم الزراعية المحلية في سلسلة التوريد العالمية ولتآكل الاكتفاء الذاتي الغذائي. ولكِنّ الفاو، وغيرها من المؤسسات متعدّدة الأطراف العالقة في شراك الإيديولوجيا النيوليبرالية، تغضُّ الطرفَ ببساطة عن هذه العيوب. وقد قدّمت جينيفر كْلابْ ستة أسباب حاسمَة لاعتبار التحرّك نحو تحقيق قدرٍ أكبر من الاكتفاء الذاتي الغذائي أمرًا في غايَة المنطق السليم.

حين يكون جزء كبير من شعب بلدٍ ما مُعرّضًا لخطر الجوع إثر نقص مفاجئ في الغذاء بسبب تقلّبات الأسواق العالمية، كما حدث في 2007-2008، “من الحكمة التفكير بعناية في طرق تحسين الإنتاج الغذائي المحلي”

يُمْكِن للبلدان التي لديها عائدات تصدير متقلبة أن تستفيد من تقليل الاعتماد على أسواق الغذاء العالمية.

“إنّ البلدان التي تعاني من انخفاض معدلات التبادل التجاري لصادراتها، أو التي تعتمد على تصدير سلعة واحدة أو اثنتين فقط في مُعْظَمِ مبادلاتها الخارجية، هي أكثر عرضة للانخفاض المفاجئ في الدخل من البلدان ذات القطاعات التصديرية الأكثر تنوعًا.”

البلدان التي تملك إمكانية تحقيق اكتفاء ذاتي غذائي اعتمادًا على مصادرها الطبيعية ولكنّها تعتمد راهنًا بشكل كاملٍ على التوريد، بإمكانِها الاستفادة من زيادة إنتاج الغذاء محلِيًّا.

حاليًّا، تفتقد أكثر من ستين دولة للقُدرة على إنتاج غذائها، لكن بالمقابل تملك غالبية دول العالم الموارد التي تُمكّنها من إنتاج ما تستهلكه من غذاء. للمُفارقَة، بعض هذه الدّول هي مُستوردة صافية للغذاء.

على سبيل المثال، كانت العديد من بُلدان إفريقيا جنوب الصّحراء مُصدّرة صافية للغذاء خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي ولكنّها أصبحت مُوّردة صافية بعد الثمانينات. مازالت بعض هذه البلدان، مثل غينيا ومالي والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطيّة، قادرةً على إنتاج غذائها محليًّا. هناك أيضًا دول أخرى مستوردة صافية للغذاء، مثل كولومبيا وفنزويلا في أمريكا الجنوبية، لديها أيضًا القدرة على تحقيق اكتفائها الذاتي الغذائي، إلّا أنّها تعتمد على الأسواق العالمية لتوفير نسبة كبيرة من استهلاكها الغذائي.  يُمكنها في هذه الظروف أن تقلّل من المخاطر المرتبطة بتقلبات عائدات التصدير وتقلّب اسعار المواد الغذائية عن طريق زيادة الإنتاج الغذائي المحلّي. بإمكان البلدان التي تُسيطر فيها حفنة من المُزوّدين على مصدر غذائها الأساسي أن تستفيد من زيادة الاكتفاء الذاتي الغذائي.

الأرُزُّ، على سبيل المثال، محصولٌ قليل التّداول، ممّا يعني أنّ مزوّديه قليلون نسبيا وتقع المتاجرة بنسبة صغيرة فقط من الإنتاج العالمي. يُمكن أن تؤدّي الاضطرابات في العرض إلى ارتفاع كبير ومفاجئ في الأسعار مثلما حصل (مع الأرزّ) خلال أزمة غذاء 2007 ـ 2008. وعلى الرغم من أنّ منتقدي الاكتفاء الذاتي الغذائي يجادلون بضرورة تداولٍ أوسع لجميع المحاصيل لتجنّب مشاكل مماثلة، إلّا أنّ عددًا قليلًا من البلدان لها إمكانيّةُ تزويد الأسواق العالمية بكميّات كبيرة من المحاصيل الأساسية كالأرزّ.

يمكن للبلدان التي لديها عدد كبير من السكان الاستفادة أيضًا من تقليل اعتمادها على الأسواق العالمية للحصول على الإمدادات الغذائية.

إذا تقلّبت من سنة لأخرى كمّيات السلع الغذائية التي تشتريها الدول الكبيرة من الأسواق العالمية، فيمكن أن تُؤثّر عمليات الشراء هذه على أسعار الغذاء العالمية بما يُؤدي إلى ارتفاع في أسعار المواد الغذائية، وإلى صعوبةٍ في الحصول عليها، ليس فقط في البلد المُشتَري ولكن أيضًا في البلدان الأخرى المستوردة لنفس السلع الأساسية. بإمكان نسبة اكتفاء ذاتي قريبة من 100٪ بهذه البلدان أنْ تُساهِمَ في استقرار أسعار المواد الغذائية المحلية والدولية.

قد تستفيد البلدان التي تواجه خطر الاضطرابات التجارية، نتيجة حربٍ أو توتراتٍ سياسيةٍ، من مستويات أعلى من الاكتفاء الذاتي الغذائي.

تَعتَبِر معظم البلدان القُدرة على ضمان الإمدادات الغذائية بأوقات الأزمات من قضايا أمنها القومي. وبالنظر لخطورة ارتهانها لاحتمال انقطاع الواردات بسبب النزاعات أو التوترات السياسية، فقد ترغب بعض البلدان في الاستثمار بقدراتها الزراعية المحلية.

يمكن الآن للمرء أن يضيف إلى هذه القائمة أنّ الأوبئة تُشكل تحديًا جسيمًا لخطوط التوريد العالمية، بل يمكن للأخيرة أن تتحوّل إلى ناقلاتٍ فعّالة للفيروسات. وهو ما يفرض اذًا على الدُوَل أن تبدأ في السعي نحو درجة أعلى من الاكتفاء الذاتي.

لعلَّ أهمَ إجراءٍ اقترَحَته هذه الدراسة هو نقل إنتاج الغذاء بعيدًا عن سلسلة إمدادات الغذاء الهشّة، المُعَوْلَمَة والواقعة تحت سيطرة الشركات، القائمة على اعتبارات ضيقة كخفض تكلفة الوِحدة، باتجّاه منظومات محلّية أكثر استدامة وتعتمدُ على الفلاحين الصغار.

بينما يجبُ، على المدى القصير، الاستمرار في العمل بسلاسل التوريد العالمية لضمان عدم تجويع الناس، ينبغي في المُقابل أن يكون الهدف الاستراتيجي هو استبدال هذه السلاسل. ويمكن بالفعل اتخاذ بعض التدابير في هذا الاتجاه حتّى خلال ذروة انتشار الوباء.

على سبيل المثال، في العديد من المدن التي تخضع للإغلاق يتوفّر الإنتاج من الريف رغم توقف سلسلة التوريد العالمية عن العمل. لكن وبسبب عمليات الإغلاق، التي تمنع الأغذية من دخول المدينة، تفْسَدُ البضاعة ويخسر الفلاحون المال. في حالات أخْرى لا يستطيع الفلاحون وصيّادو الأسماك الإنتاجَ، حتى لو اتخذوا الاحتياطات اللازمة كقاعدة المِتريْن، بسبب توجيهات الطوارئ غير المتلائمة مع الوضع المحلّي.

لو أُتيحَ إطلاقُ العنان لائتلاف قوّة الفلاحين والصيّادين – بطريقة آمنة وحذرة وبموجب قواعد الطوارئ المناسبة – سيكون مُمكنًا التخلّص من جزء كبير من المشكل الحالي المتعلّق بسلاسل الإمداد للمدن. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذا الأمر أن يساعد في منع / الحدِّ من أيّ نقصٍ محتمل في الإمدادات الغذائية؛ وذلك في مُسْتَقبلٍ سيكون فيه فقراء الفلاحين والريفيّون بلا أرض أنفُسُهم من أوّل من سيعاني ويجوع. 

المقال أعلاه مأخود من دراسة : جائحة كوفيد 19 وامكانيّة تحقيق السّيادة الغذائية

للباحث الفليبيني  والدن بيلو

لتحميل وقراءة الدراسة : إضغط هنا