جذور انتفاضة الفلاحين في الهند: رأسمالية الزراعة الصناعية والمركزية



بريتام سينغ 26 يناير/جانفي2021

أدى إصدار الحكومة الهندية ذات التوجهات القومية لحزب بهاراتيا جاناتا (BJP) لقوانين زراعية جديدة أعادت النظر بشكل خاص في نظام الحد الأدنى للأسعار المضمونة –المعتبر أصلا غير كاف– على بعض المنتجات الزراعية، إلى ظهور، منذ نهاية نوفمبر الماضي، تعبئة جماهيرية للمزارعين والمزارعات.

يخيم مئات الآلاف منهم في ضواحي دلهي، مطوقين العاصمة، للمطالبة بإلغاء هذا القانون. ورغم تعليق المحكمة العليا تطبيق هذه الأحكام في منتصف شهر يناير/جانفي، فإنّ عزيمة المتظاهرين لم تهتزّ، إذ أبقوا على تنظيم يوم نضال كبير، في 26 يناير/جانفي، الذي يقابل العيد الوطني للهند، والذي يُحتفل خلاله بإصدار الدستور بعد الاستقلال.

يحلل هذا النص الذي كتبه بريتام سينغ، والذي نُشر في الأصل في أكتوبر 2020 في مجلةEconomic & Political Weekly، التحديات التي تواجه هذه الحركة، خاصة التهديدات التي تمثّلها هذه القوانين الزراعية الجديدة على مجتمعات المزارعين التي تأثرت بشدة من فقدان قيمة العملةالمقررة سنة 2016 والأزمة التي سبّبها وباء COVID-19تضم الهند ما يقارب الـ150 مليون مزارعا، يمتلكـ أكثر من 80 ٪ منهم أقل من هكتارين.

***

في 5 يونيو/جوان 2020 ، أصدرت الحكومة الهندية ثلاثة قرارات  قانونية باسم إصلاح تسويق المنتوجات الفلاحية: قرار حول اتفاق المزارعين بشأن ضمان الأسعار والخدمات الزراعية، وأخر خاص بالتبادل وتجارة المنتجات الفلاحية (الترويج والتسهيل)، وثالث مُعدِّل للتشريعات المتعلقة بالمنتجات الأساسية[1].

أصبحت هذه القرارات الخاصة بالتجارة وتسعير المنتجات الفلاحية قانونًا، بعد أن صادق عليها البرلمان الهندي ووافق عليها رئيس البلاد. تشكل السياسة الزراعية للحكومة الحالية، بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا (BJP)، كما يعرضها هذا الإصدار، نقطة تحول حاسمة تظهر إرادة هذه الحكومة في تعزيز نصيب رأسمالية الزراعة الصناعية وتدعيم مركزية الهيمنة على الزراعة في الهند.

جاءت معارضة مشاريع القوانين هذه من ثلاث مجموعات: أولاً ، منظمات المزارعين التي تخشى من هيمنة مجموعات الصناعات الغذائية الكبيرة على القطاع الزراعي، والتي تهدّد بقاء المجتمعات الفلاحية؛ ثانياً ، حكومات الأقاليم التي تخشى من تزايد تدخل السلطة المركزية في قوانينها الزراعية؛ وثالثاً ، الأحزاب الإقليمية التي تخشى أن تعزز مشاريع القوانين هذه هجمات الحكومة المركزية المتعددة على الهويات والتطلعات الإقليمية.

تعطي التسرع في تمرير المراسيم ومشاريع القوانين مؤشراً معقولاً لموقف الحكومة الاقتصادي والسياسي بشأن هذه المسألة. لا يوجد أيّ طارئ غذائيّ في البلاد يبرِّر لجوء الحكومة للتّصرّف بهذه السرعة. يمكننا أن نستنتج أن مصالح الزراعة الصناعية التي تمول وتدعم حزب بهاراتيا جاناتا (BJP)، شجّعت الحكومة على الاستفادة من حالة الطوارئ الصحية التي أحدثها وباء COVID-19 لتبني هذه القوانين بسرعة، دون سابق إنذار أو تقييم نقدي. يبدو أن الحكومة لم تتوقع حجم المعارضة التي أثارتها هذه الإجراءات الزراعية.

لن تحدد هذه المعارضة، القائمة حاليّا خارج فضاء البرلمان، والطريقة التي ستجيب بها الحكومة، ليس فقط ملامح الاقتصاد السياسي للفلاحة وحسب، بل حتى مستقبل الديمقراطية والفيدرالية والتعدّدية في الهند. غداة اعتماد هذه القوانين، اشتدّت المواجهة بين المركز وأشكال المعارضة المتعددة له حول هذه المبادرات الزراعية.

وفضلا عن ذلك تعتزم، حكومات ولايات كيرالا والبنجاب والبنغال الغربية خططا خاصة للطعن في هذه القوانين أمام المحكمة العليا. إذا رأت المحكمة أن هذه القوانين تنتهكـ الدستور الهندي، ربما بشأن مسألة حق المركز في التشريع بشأن قضية زراعية، بينما الزراعة من اختصاص الأقاليم، فإن المسألة ستتخذ منعطفًا جديدًا[2].

ما هي أسباب معارضة المزارعين؟

الهدف الرئيسي لهذه القوانين الثلاثة […] هو تشجيع الاستثمارات الخاصة لشركات الصناعات الغذائية الوطنية والأجنبية في إنتاج وتحويل وتخزين ونقل وتسويق المنتجات الزراعية في البلاد وخارجها. منذ مدّة، ضغطت شركات الزراعة التجارية متعددة الجنسيات من أجل الاستثمار الأجنبي المباشر في الزراعة الهندية. تلقّـت هذه الأخيرة بالفعل استثمارات أجنبية مباشرة، في إطار عقود زراعية لبعض المنتجات، لكن هذه الأحكام تمهِّد الطريق لزيادة كبيرة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاع الزراعي. لذلكـ فإن الإصلاحات المتعلّقة بالتسويق هي عناصر حاسمة في هذا التشريع.

للدفاع عن هذه الإصلاحات، تؤكِّد الحكومة أنها تهدف إلى دعم حرّية اختيار المزارعين لبيع منتوجاتهم خارج الأسواق المحلية، أي بأسعار السوق التي تحدّدها APMC (لجنة سوق المنتوجات الزراعية[3]) وداخل حدود الأقاليم. من خلال حملة إعلامية ضخمة تدعم هذا الخطاب، تسعى الحكومة إلى جعل هذه السياسة مقبولة لدى مجتمعات المزارعين.

ومع ذلك، فإن الحرية التي زادت حقًا هي تلكـ التي تتمتع بها المجموعات الكبيرة لأعمال الزراعة التجارية، سواء كان ذلكـ في الهند أو في الخارج. سيكون أصغر المزارعين وصغار ومتوسطو الحجم منهم الأكثر تضررًا: ستكون قدراتهم التفاوضية في مواجهة المجموعات الكبيرة ذات الموارد الكبيرة، للتوصل إلى اتفاق بشأن الأسعار وتنفيذ هذا العقد، من الضعف بمكان حيث ينتهي هؤلاء المزارعون ليصبحوا عبيدًا اقتصاديين، محاصرين بالاستراتيجيات الأخطبوطية للمجموعات الكبيرة.

يذكر القانون المتعلّق بمبادلة وتجارة المواد الزراعية (الترويج والتيسير) لسنة 2020، القمح والأرز وقصب السكر والقطن، فضلاً عن منتجات الأخرى، ضمن نطاق تطبيقاته. هذه المنتجات هي أهم منتوجات القطاع الزراعي في إقليمي البنجاب وهاريانا، الولايتان الرئيسيتان لإنتاج الغذاء بالهند. إن آلية “تسوية النزاع” بين مزارع وتاجر، كما تمّ التنصيص عليها بالقانون، غير ملائمة بالمرّة للمزارع، بسبب غياب التكافؤ في موازين القوى الحقيقية بين مزارع (خاصةً الصغير جدًا أو الصغير أو المزارع المتوسط) وتاجر، خصوصا إذا كان هذا التاجر مجموعة زراعية تجارية كبيرة. يمكن أن يمر النزاع بمراحل مختلفة من الإجراءات الإدارية/القانونية، بدءًا من قاضي الدائرة الفرعية.

ومع ذلكـ، فإن مزارعا غير راض، بمحدودية موارده ومعرفته ووقته، لن يجرؤ على تحدي البراعة القانونية للمؤسسات التي يمكنها توظيف محامين باهظي الثمن. ان التهديد بالعقوبة المنصوص عليها في القانون، إذا لم ينجح الطعن القانوني للنزاع وثبت أن العقد قد انتهكـ، من شأنه، إلى جانب ذلكـ، أن يجعل أي مزارع متوجّسا للغاية من فكرة تحدي مؤسسة قوية، والتي، بسبب وزنها المالي، يمكنها تحمّل مخاطر التغريم. حسب طبيعة خرق العقد، تتراوح الغرامة ما بين 25000 إلى مليون روبية. إذا استمر الانتهاكـ، فقد يتم فرض غرامة إضافية تتراوح بين 5000 و10000 روبية في اليوم. لننس المزارع الصغير: حتى الفلاح الكبير سيخشى مثل هذه الغرامات الباهظة إذا فشل الإجراء ولن يجرؤ على تحدّي مجموعة كبيرة.

لا تحتوي مشاريع القوانين على أي ذكر للحفاظ على حدّ أدنى لسعر الدعم ([4]MSP) والذي يتعلق أساسا بالأرز والقمح، وهما الزراعتان الغذائيتان الرئيسيتان في البنجاب وهاريانا، وبدرجة أقل، بالولايات الهندية الأخرى. ان اتفاقية ضمان الأسعار (التمكين والحماية) للمزارعين وأمر الخدمات الفلاحية لسنة 2020، بدل تحديد الحدّ الأدنى لسعر الدعم (MSP)، يذكر ببساطة “سعرًا مجزيًا” يجب على المزارع تحديده من خلال عقد مع “مؤسسات الصناعات الغذائية والمحوّلين وتجار الجملة والمصدّرين أو تجّار التّفصيل الكبار”. يجب أن يحدّد العقد أيضًا “جودة وحجم ومعايير” المنتج الذي يبيعه المزارع.

إن صياغة البند الذي يسمح بتغيير العقد أو إنهاءه تزيد من هشاشة المزارع. ينص الفصل 11 من القانون على أنه “في أي وقت بعد امضاء اتفاقية زراعية، يجوز للأطراف المُمضية، باتفاق متبادل، تعديل أو إنهاء هذه الاتفاقية لأي سبب معقول”. بسبب العلاقة غير المتكافئة بين المزارع ومؤسسة الزراعة التجارية، يمكن أن تخضع موافقة المزارع على تغيير أو إنهاء العقد لضغوط اقتصادية وغير اقتصادية قوية. ان نظام تسوية النزاعات المتعلقة بسعر وجودة المنتج المذكور في العقد منحاز أيضًا لغير مصلحة المزارع.

أثار الإعلان العمومي عن إلغاء برنامج الحدّ الأدنى لسعر الدعم (MSP) مخاوف من أن التخلي التام عن الحدّ الأدنى لسعر الدّعم للقمح والأرز لن يؤدّي فقط إلى تهميش الجماعات الزراعية في الولايات المنتجة للقمح والأرز، بل يقوض أيضًا الأهداف الحكومية لشراء هذه المنتوجات، والتي يمكن أن تؤدّي إلى انعدام الأمن الغذائي وحدوث اضطرابات اجتماعية في مناطق العجز الغذائي. نتيجة لذلكـ، حاول عديد الناطقين الرسميّين للحكومة الحدّ من الأضرار بالإعلان عن استمرار الحدّ الأدنى لسعر الدعم. حتى لو منحنا الثقة بتردّد لهذه الإعلانات، ولأسباب إستراتيجية ، لم يتم إلغاء الحدّ الأدنى لسعر الدعم مؤقتًا، يجب أن نتذكّر دوما بأن الحدّ الأدنى لسعر الدّعم لن يُستخدم في خلاص المزارعين إلاّ من أجل الاستجابة لأهداف الشراء التي تقررها الحكومة. بمجرد تحقيق هذا الهدف، لن تحتاج الحكومة إلى شراء المزيد من المنتوجات. سيتعرض المزارعون، المحرومون من الحدّ الأدنى لسعر الدعم، لتقلّبات السوق، والتي من شأنها أن تخفض سعر منتوجاتهم نتيجة تجاوز العرض أهداف الشراء.

ليس مستبعدا أنه في البداية، ولعدة سنوات ، ستشجع الحكومة المركزية وتدعم كبار تجار المواد الغذائية على عرض أسعار أعلى للمزارعين من تلك التي تمارسها لجنة سوق المنتوجات الزراعية (APMC). بمجرد أن تزيل هذه المنافسة المزوّرة الهياكل التجارية للجنة سوق المنتوجات الزراعية، سيكون المزارعون تحت رحمة كبار التجار الذين سيستغلّون هشاشتهم الجديدة والمتزايدة.

من وجهة نظري، فإن العديد من الإجراءات في القطاع الفلاحي، بما في ذلك أحدث الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة، تهدف إلى إضعاف الجدوى الاقتصادية لأصغر المزارعين وصغارهم والمتوسطين منهم، لإجبارهم على بيع أراضيهم لمجموعات الزراعة التجارية، الهندية أو الأجنبية. سيصبح هؤلاء المزارعون، الذين جُرِّدوا من مزارعهم الصغيرة، عمّالًا أجراء. إن فائض العرض الذي سيمثّله هؤلاء العمال في الاقتصاد الريفي، ونتيجة للهجرات الاقتصادية القسرية، في الاقتصاد الحضري، سيؤدّي إلى انخفاض الأجور، مما سيفضي إلى زيادة أرباح المؤسسات الرأسمالية الفلاحية والحضرية. هذا هو المعنى الخفي لعبارة “تحويل الزراعة” المستخدمة للدفاع عن هذه الإجراءات.

ان مقاومة المزارعين لهذه القوانين، كما يتضح ذلكـ من النجاح الجماهيري لإضراب بهارات بانده (إضراب عام اقليمي) في 25 أيلول/سبتمبر الماضي، يمكن أن تكون أكبر تحدّ سياسي واجهه حزب بهاراتيا جاناتا منذ عودته إلى السلطة سنة 2019. إذا اشتدّت المواجهة بين حركة المزارعين ضد القانون والحكومة، من الممكن أن تلجأ هذه الأخيرة إلى نفس الأساليب لقمع منظمات الفلاحين والتي استخدمتها ضد المعارضين الآخرين: استدعاء المنشقين اليساريين للناكسال[5]، المناضلون من أصول إسلامية “إرهابيون” والمعارضون من أصل سيخي “خليستانيون”[6]. تشير حقيقة أن بعض الموالين للحكومة ينعتو بالفعل نشطاء المزارعين على أنهم ناكسال وإرهابيون إلى أن هذا التوجّه قد يكون أحد خطوط استراتيجية الحكومة.

ومع ذلكـ، يمكن للحكومة أن تتخلى عن مسار هذا التوجّه لأنه قد يأتي عليها بنتائج عكسية، نظرا للدعم الهائل، وإن كان غير متكافئ، الذي تواجهه منظمات الفلاحين في الأقاليم. يمكن للحكومة بدلاً من ذلكـ أن تختار استهداف المزارعين النشطاء اليساريين فقط من خلال تصنيفهم على أنهم ناكسال أو متعاطفون مع الناكسال. إن نوع الاستجابة التي قدمتها حركة المزارعين بشكل عام لهذا النوع من القمع الانتقائي سيختبر النضج السياسي وثقافة التضامن بين منظمات المزارعين.

ماذا تخشى دول الأقاليم؟

منذ صياغة الدستور الهندي سنة 1949 وحتى التعديلات المختلفة التي تم إجراؤها إثر ذلكـ، استمرت الحكومة المركزية في التعدّي على القطاع الفلاحي الذي حدّده الدستور على أنه من اختصاص الأقاليم. يذهب قانون 2020 حول المواد الأساسية إلى أبعد من ذلك بكثير في هذا الاتجاه، وهو الهجوم الأكثر تدميراً حتى الآن للحقوق الفيدرالية للأقاليم في مجال الزراعة. يقول شعار الحكومة “هند واحدة، سوق فلاحي واحد” الكثير عن الهدف المركزي المخفي بالكاد لهذا الإجراء.

هناك مفهوم شائع خاطئ في بعض الكتابات الأكاديمية والصحفية حول الاقتصاد السياسي الهندي بشكل عام والإجراءات الأخيرة للحكومة المركزية حول السياسة الفلاحية بوجه خاص. وفقًا لهذه الفكرة، فإن إضعاف النظام القانوني الحكومي الدّاعم للخوصصة، وكأنّه تمّ توخّيه في إطار إصلاحات إلغاء هذه الضوابط، سيؤدّي إلى لامركزية السلطات ونقلها إلى الأقاليم. يمكن إرجاع أصل هذه الفكرة إلى عدم القدرة على الاعتراف بأن القومية المركزية، عكسَ القوميّات المُتعدّدة، لعبت دورًا استراتيجيًا في تشكيل الاقتصاد الرأسمالي الهندي، حيث مَنَحَ المركز نفسه سُلُطات مفرطة من أجل بناء قومية مُوحِّدة، بناء قومية وحدوية. وبالتّالي، فإن الخوصصة المتزايدة النّاتجة عن إصلاحات تحرير القيود، لا تتعارض بالضرورة مع المركزية[7]. يؤكّد قانون سنة 2020 حول المواد الأساسية بوضوح الأطروحة القائلة بأنه في الهند، لا يمكن للمركزية والخوصصة التعايش فحسب، بل والأكثر من ذلكـ، أنهما تدعمان بعضهما البعض. إنّ تعزيز المركزية والخوصصة هي السمات الرئيسية لهذا القانون.

يتضح حجم الهجوم على الاستقلال المحدود للأقاليم بشكل جلي في الفصل 12 من قانون 2020 الخاص بتبادل وتجارة المنتوجات الزراعية (الترويج والتيسير): “يمكن للحكومة المركزية، من أجل تطبيق أحكام هذا القانون، أن تعطي جميع التعليمات والتوجيهات والأوامر أو التوصيات التي تراها ضرورية، لأي سلطة أو وكيل مُعتمد للحكومة المركزية أو لحكومات الأقاليم أو أيّ سلطة أو عون لحكومة الإقليم”. لا يمكن تجاهل هذا التحذير المُلحّ بشأن الحدِّ الكبير لسلطات الأقاليم إلا من طرف المشرفين السياسيين على مستوى الإقليم، والذين يمتازون بمحدودية رؤيتهم للشأن السياسي.

لا يمكن التعبير بشكل مباشر عن تقويض استقلالية الأقاليم بأكثر ممّا ورد في الفصل 16 من قانون اتفاق المزارعين على ضمان الأسعار والخدمات الزراعية لسنة 2020. وفقًا لهذا الفصل: “يجوز للحكومة المركزية، من وقت لآخر، إعطاء التعليمات التي تراها ضرورية لحكومات الأقاليم من أجل التنفيذ الفعّال لأحكام هذا القانون، ويجب على حكومات الأقاليم الامتثال لهذه التعليمات” (يؤكد المؤلف). ليس لدى حكومات الأقاليم أي مجال للمناورة فيما يتعلق بالتوجيهات المركزية[8].

يتضح الهجوم الذي شنّه القانون المتعلق بتبادل وتجارة المواد الزراعية (الترويج والتيسير) لسنة 2020 على الموارد الجبائية المحدودة للأقاليم في النص الذي ينصّ على أنّه لا يمكن فرض “أي حق في الولوج إلى الأسواق، ولا ضريبة أو رسم” من خلال لوائح لجنة سوق المنتوجات الزراعية (APMC) أو الإقليم، أو أي قانون إقليمي آخر. بعد حرمان الأقاليم من الموارد المالية التي كانت تحصل عليها سابقًا من رسوم المبيعات، عبر استبدالها بضريبة السلع والخدمات (GST) التي يسيطر عليها المركز، ثم رفض تعويض هذه الخسارة. يُعدُّ هذا هجومًا جديدًا يهدف إلى إضعاف الأقاليم ماليًا وجعلها أكثر تبعيّة للحكومة المركزية.

بالإضافة إلى أنّها تولّد توترات عمودية بين الحكومة المركزية والأقاليم، يمكن لهذه الإصلاحات الزراعية أن تولّد توترات أفقية جديدة (بين الأقاليم)، بنفس مُستوى الخطورة، والصراعات الطبقية في امتداد التوترات الأفقية. إنّ الأقاليم التي تعتمد على االفلاحة، مثل البنجاب وهاريانا، ومزارعي تلك الأقاليم ستكون الأكثر تضرّرًا من تحديد آليات ضمان حد أدنى من سعر الدعم. من ناحية أخرى، فإن الأقاليم المتقدمة صناعيًا مثل غوجارات وماهاراسترا والمؤسسات الكبيرة (خاصة تلكـ العاملة في قطاع الصناعات الغذائية) الموجودة في هذه الأقاليم ستكون المستفيد الأول، حيث سيكون لديها ولوج أفضل (من حيث الكمية والسّهولة) للمواد الغذائية والمواد الخام الفلاحية القادمة من الأقاليم الأخرى. سيؤدي هذا إلى زيادة التوتّرات ما بين الأقاليم والطبقات الاجتماعية.

التطلعات/الهويات الإقليمية

ان التدخّل المستمرّ للحكومة المركزية، عبر هذه القوانين، في حقوق الأقاليم في المجال الفلاحي، كان سبب إنذار كلّ الأقاليم، رغم ان الحكومات التي يقودها حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) تعمّدت الصمت أو دعمت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المركزية. تعتبر الأحزاب الإقليمية المركزية المتصاعدة تهديدا لقوة المصالح والتطلعات والهويات الإقليمية. إن العلاقة المضطربة مع شيف سينا (Shiv Sena)وأكالي دال (Akali Dal)، وهما حزبان إقليميان من أقدم حلفاء حزب بهاراتيا جاناتا (BJP)، هي مظاهر للتوتر بين التصورات الايديولوجية لمركزية الهندوتفا (Hindutva) والتطلعات الإقليمية[9]. أدى التوتر بشأن القوانين الزراعية إلى استقالة ممثل أكالي دال، هارسيمرات كور بادال (Harsimrat Kaur Badal)، من مجلس الاتحاد. هذه الاستقالة هي أول مثال على تركـ وزير حكومة مركزية بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) حول مسألة سياسية. قد تواجه الحكومة الائتلافية التي يقودها حزب بهاراتيا جاناتا في هاريانا، مع حليفها الإقليمي جانّاياك جانتا (Jannayak Janta) لدوشيانت تشوتالا (Dushyant Chautala)، أزمة إذا تركـ نائب رئيس الوزراء تشوتالا (Chautala) التحالف تحت ضغط المنظّمات الفلاحية التي يدعمها حاليًا في حملتها ضد القوانين الزراعية.

على الرغم من اختلافهما من عديد النواحٍي، يشتركـ كلّ من حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) والكونغرس في رؤية سياسية مُمركِزة، من أجل بناء هوية وطنية هندية موحَّدة. لذلكـ، يعارض كلا الجانبين التعبير عن الهويات الإقليمية. ومع ذلكـ، ففي الوقت الحالي، لحزب بهاراتيا جاناتا مقاربة أكثر شراسة بكثير من الكونجرس حول المركزية.

ان طرح مبدإ “دولة واحدة، سوق زراعيّ واحد” للدفاع عن السياسات الفلاحية التي تتضمّن القوانين الزراعية، والترويج العدواني للغة الهندية على حساب اللّغات الإقليمية (أكثر بكثير ممّا فعله الكونغرس خلال فترة حكمه)، وقرارَه إلغاء الوضع الدستوري لجامو وكشمير[10]، وسياسته التعليمية الجديدة، كلّها مؤشّرات رئيسيّة للبرنامج المركزي العدواني لحزب بهاراتيا جاناتا.

تمامًا كما ينظر حزب بهاراتيا جاناتا إلى الهويات الإقليمية بريبة، كمُخرّب لبرنامجه الشّامل للهوية الهندية، لا تثق الهويّات الإقليمية في رؤية هذا الحزب على أساس هدفها تدمير هذه الهويّات. ساهم التوتّر بين الأقاليم -كمواقع تتطور فيها الهويات الإقليمية المختلفة- والمركز حول القوانين الزراعية في زيادة مخاوف الهويات الإقليمية بشأن المشروع السياسي لحزب بهاراتيا جاناتا للهندية الموحدة.

مخاوف بيئية

لقد ناقشنا الحلقات الرئيسية الثلاثة لمقاومة القوانين الزراعية، لكن من المهم أن نذكر، ولو بإيجاز، العواقب البيئية السلبية لتطبيق هذه القوانين. في الواقع، لم يتم تناول هذه المسألة كثيرًا في النقاشات الدّائرة حاليّا حول هذه القوانين. إن تدمير الفلاحة المحلية، التي تطورت على مستوى الأقاليم، ودمجها في الأسواق الوطنية والعالمية سيؤدي إلى زيادة النّقل. يؤثر اللجوء المتزايد لوسائل النّقل في جميع أنحاء العالم على انبعاثات غاز الكربون، يزيد التلوث، ويتسبب في تدمير البيئة وتدهور صحة جميع الكائنات الحية، البشرية وغير البشرية. إنه نقيض مبدإ “الحكم الذاتي” (Aatmanirbharta) الذي تقدمه هذه الحكومة كهدف لها، بأسلوب نفاق واضح.

كما أن هناك حاجة لإعطاء الزراعة أهمّية أكبر في الخطاب حول “التنمية”. سواء كان ذلك تفكيرًا يمينيًا تقليديًا (على سبيل المثال مراحل النمو الاقتصادي عند روستو (Rostow) أو الأنموذج الاقتصادي المزدوج لِلويس (Lewis)) أو التفكير اليساري المهيمن (تجميع (collectivisation) ستالين كشكل متطرف لهذا التفكير)، يرى هذان التّوجّهان التنمية والنمو كوسيلة للانتقال من الفلاحة إلى الصناعة والخدمات. في عصر تغير المناخ العالمي، حيث يواجه كوكبنا تهديدًا وجوديًا ناجما عن الاحتباس الحراري وفقدان التنوع البيولوجي، نتيجة المسارات المستعملة تقليديًا لتعزيز النمو الاقتصادي، يمينا ويسارا، يجب أن نعود إلى مركزة الفلاحة وإعادة تصور أنماط حياة زراعية مستدامة بيئيًا. إنّ الاشتراكية البيئية، كنقد لطرق التفكير التقليدية، اليمينية واليسارية، هي محاولة لمواجهة التحدي البيئي الذي تواجهه الإنسانية اليوم.

خلاصة

تشكل هذه القوانين الزراعية نقطة تحول مدمِّرة في السياسة الاقتصادية على عدة مستويات. لا يمكن عكس نقطة التحول هذه إلا من خلال العمل التشاركي والجماعي للمنظمات التي تمثل صغار المزارعين وصغارهم ومتوسطي الحجم منهم. كما أنه من المصلحة الاقتصادية والواجب الأخلاقي لجميع المكوِّنات السياسية وحكومات الأقاليم التي تدافع عن الفيدرالية والتعدّدية والاستدامة البيئيّة تنسيق جهودها لمواجهة هذا التطور. إنّ النضال من أجل الفيدرالية والتنوع هو أيضًا نضال من أجل الديمقراطية. يساهم ضعف الفيدرالية في تركيز السلطة الاقتصادية والسياسية بالمركز وفي ظهور اتجاهات وممارسات سياسية استبدادية هي أيضًا مناهضة للبيئة.

إن المؤشر على صدق والتزام أولئك الذين يناضلون بطريقة منظّمة لعكس حزمة التدابير الواردة في القوانين الزراعية هذه سيكون الالتزام بإلغاء هذه التغييرات لو أصبحت جزءًا من حكومة مركزية، وكذلك مراجعة الدستور الهندي، من أجل زيادة سلطة الأقاليم في إدارة الفلاحة. هناكـ أيضًا مجالات أخرى، مثل الصناعة والمالية والتعليم، والتي يجب المطالبة بلامركزيتها، لكن الفلاحة مرتبطة بالأرض ومزوِّدة للغذاء، فهي تظل مركز الدفاع عن استقلال الأقاليم. إن الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا كلها مندمجة بإحكام في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، لكن كل من هذه الدول تفعل كل ما في وسعها لحماية فلاحتها حتى ولو كانت هذه الحماية لا تستجيب لمعايير الاستدامة البيئية.

إن حماية الفلاحة باعتبارها من اختصاص الأقاليم في الفيدرالية الهندية ومقاومة دخول الرأسمالية الفلاحية-الصناعية ستكون أهمّ المعاركـ الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الرئيسية في الهند في السنوات القادمة. إن الإمساكـ بخطورة هذه القضية مسألة ضرورية لتطوير تصوّر لتعزيز اللامركزية والتنوع والديمقراطية والفلاحة المحلية والاستدامة البيئية.

ترجمة موقع سيادة

 الرابط الاصلي للمقال


هوامش

[1] ملاحظة المترجمين: العناوين الأصلية هي التالية: اتفاقية المزارعين (التمكين والحماية) حول ضمان الأسعار وقانون خدمات المَزارع، 2020؛ قانون تبادل وتجارة منتجات المزارعين (الترويج والتيسير) لعام 2020؛ وأمر خاص بالسلع الأساسية (تعديل) لعام 2020.

[2] ملاحظة المترجمين: قررت المحكمة العليا، في 12 يناير/جانفي، تعليق تطبيق القوانين الثلاثة المطعون فيها، وهو القرار الذي استنكره المزارعون ومنظماتهم باعتباره حيلة للحد من تحركهم.

[3] ملاحظة المترجمين: : APMCs هي لجان موجودة على مستوى كل إقليم من أقاليم الاتحاد الهندي والتي تقوم بدورٍ مهمٍّ في تحديد الأسعار. توضع هذه اللجان تحت سلطة المجالس التشريعية للإقليم.

[4] ملاحظة المترجمين: يتم الآن التّحكّم في أسعار 23 منتجًا زراعيًا بسعر أدنى مضمون.

[5] ملاحظة المترجمين: الناكسالية حركة ثورية متمردة، ذاة توجّه ماوي، نشأت في أواخر ستينيات القرن الماضي قامت الدولة الهندية بقمعها.

[6] ملاحظة المترجمين: من خالستان ، اسم الدولة الذي يطالب به الانفصاليون السيخ.

[7] سينغ، بريتام (2008): الفيدرالية والقومية والتنمية: الهند واقتصاد البنجاب، لندن/نيويورك: روتليدج (Federalism, Nationalism and Development: India and the Punjab Economy, London/New York: Routledge).

[8] سينغ، بريتام (2020أ): “إصلاحات التسويق الزراعي للمركز هي هجوم على الفيدرالية “، واير، 20 حزيران/جوان، https://thewire.in/agriculture/agriculture-marketing-reforms-federalism

[9] سينغ، بريتام (2020ب): “مع اتساع التصدّعات في اتفاقية عدم الإفشاء، هل تتعارض أيديولوجية حزب بهاراتيا جاناتا مع الهويات الإقليمية؟”، واير، 22 أيلول/سبتمبر، https://thewire.in/politics/bjp- Punjab-akali-dal-shiv-sena-Regional-alliance.

[10] ملاحظة المترجمين: حول هذه النقطة ، انظر: https://www.contretemps.eu/cachemire-inde-modi-bjp/.