تغطي ضيعة المصير الواقعة في عمادة الأقصاب، في معتمدية قعفور بولاية سليانة، شمال غربي تونس، كامل مساحة العمادة المذكورة، حيث لا يملك فلاحو هذه المنطقة وثائق ملكية الأرض التي بنيت فوقها مساكنهم (أراض دولية).
الأقصاب قرية فلاحية يشتغل معظم سكانها بالأرض، تحديدا أراضي الدولة بصفة عمال قارين وعمال عرضيين وقلة مرسمين. تشهد هذه القرية اعتصاما منذ الرابع من فيفري 2022 تحت شعار الحق في النفاذ إلى الأرض.
تبلغ مساحة ضيعة المصير حوالي 820 هكتار، تسلمها الممثل القانوني لشركة الإحياء والتنمية الفلاحية “معموري” يوم 08 ديسمبر 2020. تتوزع بين 580 هكتار أراضي بعلية وسقوية، و 140 هكتار زياتين، و5 هكتارات من اللوز، وبقية المساحة مراع وأراض غابية، ومسالك مسجلة وأودية.
شركات الإحياء والتنمية الفلاحية متمرسة في الإخلال بتعهداتها، ومع كل تجربة يثبت هذا المثال عدم جدواه. فضيعة المصير كانت تحت تصرف ديوان الأراضي الدولية، وتشغل 26 عاملا لم يُبق منهم الممثل القانوني لشركة الإحياء والتنمية الفلاحية “معموري” إلا أربعة عمال. وبانتفاضة المطرودين واحتجاجهم بتاريخ9 0 جانفي 2020 عن طريق عدل منفذ، تدخلت السلطات المحلية (معتمد قعفور)، وطالبتهم بانتظار انطلاق الاستثمار واشتداد عوده ومن ثمة عودتهم إلى العمل. لم ينفذ أيٌّ من هذه الوعود، بل جرت متابعات قضائية أرهبت أصحاب الحق فتراجعوا. كان أول أسباب هذا التراجع الجهل بالقوانين، وثانيها غياب تأطير من المنظمات المدنية، خاصة تلك التي تعنى بالفلاحة. أما اتحاد الفلاحين (لا يمثل إلا الفلاحين الكبار) فغالبا ما يقف في صف السلطة، ولا يمكن أن يساند الفلاحين الصغار والفلاحين معدومي الأرض.
ورد في تقرير محكمة المحاسبات برسم العام 2018 أن 53 % من شركات الإحياء لم تلتزم ببرامجها الاستثمارية. كما لم تتجاوز نسبة التشغيل 25 %. كما يؤكد التقرير أن معاليم الكراء لا تتناسب وقيمة العقار حيث تقل عن معاليم الكراء من الخواص بخمسة مرات.
تقررت، بعد اجتماع مع اتحاد العمال بمقر وزارة الفلاحة والموارد المائية بين الجهات المتدخلة في ملف الأراضي الدولية، دراسة وضعية الأراضي الدولية بولاية سليانة، وإعداد تقرير مفصل في أجل لا يتجاوز شهرا ونصف انطلاقا من يوم 1 فيفري 2022.
الإعلان عن تأسيس تنسيقية صغار الفلاحين بالاقصاب والأخوات.
لا تتوافر مجالات عمل بديلة، ما يجعل فلاحي هذه الأرض وعمالها في حالة عطالة تامة، ضمن ظروف اجتماعية قاسية فاقمتها جائحة كوفيد-19. فقد أدى طرد العمال إلى انتفاء موارد رزقهم المحدودة سلفا. هذا فضلا عن تواصل الأعباء العائلية، من مصاريف تعليم الأبناء وسداد فواتير الخدمات الأساسية، دون أفق خروج من دوامة الهم اليومي. قرر المتضررون، مدعومين من جل سكان المنطقة، الاحتجاج والمطالبة بحقهم في العيش الكريم عن طريق تمكينهم من الأرض. فنظموا اعتصاما مفتوحا يوم 04 فيفري 2022، جرى فيه إعلان تأسيس تنسيقية صغار الفلاحين بالاقصاب والاخوات.
حاول المستثمر الفلاحي، طبق الممارسات المألوفة للوبيات المستفيدة من الأراضي الدولية، تأليب الرأي العام المحلي والجهوي على المعتصمين عن طريق فيديوهات له على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
تقدم الممثل القانوني لشركة الإحياء بشكاية إلى وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بسليانة ضد 6 فلاحين، وتركية الشايب المساندة لهم، وذلك بتاريخ 7 فيفري 2022. وطالب بمتابعتهم بجريرة تكوين وفاق قصد الاعتداء على أملاك الأشخاص، والاعتداء على الأخلاق الحميدة، وتعطيل حرية العمل، والقذف العلني ثم التهديد بما يوجب عقابا جنائيا.
تغيرت هنا أساليب القمع من الغازات المسيلة للدموع إلى المحاكمات والمضايقات. فيد المستثمر المطلقة وعلاقاته المتشعبة داخل السلطة مكنتاه من فرض جلسات محاكمة شبه يومية على المحتجين.
تحركت الجمعيات والمنظمات المهتمة بملف الأراضي الدولية، وكل ما له علاقة بالسيادة الغذائية، ونظمت قافلة تضامنية (المنصة التونسية للبدائل، شبكة شمال إفريقيا للسيادة الغذائية، جمعية المليون ريفية، نوماد 08، ) إضافة إلى ناشطين مستقلين ومحامين. وكان الهدف مساندة الحراك ومحاولة تأطيره قصد بلورة بديل.
لكن بعض المعرقلات برزت جلية، لعل أهمها انخراط أعضاء حملة الرئيس قيس سعيد الانتخابية في عملية الترويج لمشروعه المسمى شركات أهلية.
المشتكى بهم : فلاحون دون أرض ولا سبيل إلا الكفاح لانتزاع حقوقهم .
يصر الناطق الرسمي باسم تنسيقية صغار الفلاحين بالاقصاب والاخوات على أنه لا تراجع عن حقهم في الأرض.
قرّر قاضي المجلس الجناحي بالحكمة الابتدائية بسليانة، بحضور الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعدد من المحامين المناصرين لقضايا الفلاحين ومنظمات وجمعيات، تأجيل القضية الى يوم 24 مارس 2022 والابقاء على المتهمين في حالة سراح.
في تطور مفاجئ، تم تقديم تاريخ الجلسة ليوم 23 فيفري 2022. هذا ويستغرب المشتكى بهم تسريع الإجراءات ضدهم في وقت رفعت دعوة ضد الممثل القانوني لشركة الإحياء والتنمية الفلاحية “معموري” بتهمة تدنيس الراية الوطنية (حيث يستعمل علم البلاد غطاء لأكوام التبن) دون أن ينجم عن الشكاية أي أثر قانوني.
ردا على ذلك، دعت تنسيقية صغار الفلاحين بالاقصاب والاخوات إلى تنظيم وقفة احتجاجية أمام وزارة أملاك الدولة بتونس العاصمة. وفي أثناء الاحتجاج، استقبل وزير أملاك الدولة وفدا ممثلا للمعتصمين. ولم يسفر هذا اللقاء عن أي جديد.
يمثل صغار الفلاحين والفلاحون دون أرض أغلبية في ولاية سليانة، حيث تمتلك الدولة الأراضي الكبرى وتتصرف فيها دون اعتماد الصيغ القانونية. وتعاني أغلب المستغلات الفلاحية الخاصة، التي تمثل زهاء 54 بالمائة من المقدرة التشغيلية للقطاع، من إشكالات هيكلية لاسيما تقلص المساحات، ممّا يجعلها عاجزة على تطوير إنتاجها ومَكْنَنة طُرق العمل.
و تحدو تنسيقية صغار الفلاحين بالاقصاب والاخوات حدو تنسيقية أولاد جاب الله من أجل فرض صيغة تتيح للفلاح الذي يعمر الأرض الاستفادة منها وتطوير إنتاجها. تتباين درجات وعي المحتجين، فثمة من يدعو إلى تشغيل سكان المنطقة في الأرض، ومن يدعو إلى تمكين السكان من كراء الأرض ولو بمقابل أكثر من شركة الإحياء والتنمية الفلاحية المتصرفة في الضيعة لنصل حدود تقسيم الأراضي إلى مقاسم وتوزيعها على السكان.
هذه الطروحات مدفوعة بالضيم وقلة ذات اليد، إلا أنها تتنافى والإمكانيات الفلاحية التي تقدمها الأرض التي كانت في ما مضى جزءا من مطمور روما وهي متخصصة في الزراعات الكبرى. أي أن مزيد تشتيت الملكيات لن يكون أكثر من حل ترقيعي يفاقم مشكلات السيادة الغذائية.
لا تبدو أفكار الفلاحين واضحة بخصوص شكل إدارة الأرض، لكنهم يرفعون شعار الأرض لمن يفلحها؛ وهذه مقدمة يمكن البناء عليها وتطويرها من أجل فلاحة مستدامة.
يستغرق إسقاط الحق عن المستثمرين مدة بين 4 أيام و6 سنوات، وهذا حسب الظرف السياسي وعلاقة المعنيين بالسلطة. هذا وتم استرجاع حوالي 70 ألف هكتار، وتعهد بها ديوان الأراضي الدولية غير أن نسبة الاستغلال تبلغ بالكاد 66 %.
معظم اليد العاملة في قطاع الفلاحة نساء، ويبلغ متوسط أجرة المرأة العاملة في ولاية سليانة أدنى من نصف أجرة الرجل. وأغلب النسوة لا عهد لهن بحقوقهن كنساء بداية وكعاملات ثانيا.
هنا تحدثنا أحد بنات مهندسة فلاحة عن ما تعرضت له من رفض لمحاولة حصولها على مقسم فني يمكنها من استثمار ما تعلمته. تحاول النساء هنا الاحتجاج في الخفاء حتى لا يحرمن من العمل الموسمي لدى المستثمرين إبان موسم جني الزيتون. وبمجرد خروجهن للاحتجاج قد يحصل معهن نظير ما جرى صبيحة الرابع والعشرين من فيفري 2022 وإثر غلق الطريق بالحجارة من قبل معتصمي الاقصاب وسكانها حيث حاول المستثمر الفلاحي دوس امرأتين من المنطقة بسيارته.
بعد هذه الحادثة بأيام توالت الشكايات والمحاكمات وصبيحة الأول من مارس 2022 تم إيقاف خمسة من المعتصمين في ضرب واضح لحرية الاحتجاج. يبدو أن السلطة تريد تأبيد هذا الوضع الذي يمنع الفلاحين من الأرض.
ملف الأراضي الدولية
تمثل أراضي الدولة الفلاحية في تونس حوالي 5,1 % من الأراضي الفلاحية أي 500 ألف هكتار . إثر الاستشارة الوطنية لسنة 1990 وبعد انتهاج الدولة مزيدا من الانفتاح الاقتصادي تم تفويت 320 ألف هكتار للخواص بين شركات إحياء ومقاسم فنيين وفلاحين شبان.
هذا ويفيد تقرير محكمة المحاسبات برسم العام 2018 فشل المنوال المتبع حيث تنتج الضيعات التي تسيرها شركة إحياء وتنمية فلاحية (خواص) أقل ب 40 % من الأراضي الفلاحية المجاورة لها.
الأراضي الدولية في ولاية سليانة من التعاضد إلى التشتيت
أحدثت ولاية سليانة سنة 1974، وهي رابع محافظة بإقليم الشمال الغربي. وينتج الإقليم 65 % من الحبوب في تونس، 13 %منها تنتجها ولاية سليانة. وتبلغ مساحة الأراضي الفلاحية الدولية فيها 63 ألف هكتار. تتوزع على 41 تعاضدية (تعاونية فلاحية) تم تفويت 39 منها لمستثمرين خواص إبان الإصلاح الهيكلي مطلع العام 1985 . وقد بلغت مقدرة هذه التعاضديات على التشغيل 2000 بين متعاضدين وعمال وإطارات قبل التفويت.
منذ العام 2016 يتحرك الاتحاد العام التونسي للشغل بالجهة، وتم إسقاط الحق على عدة مستثمرين فلاحيين وألحقت الضيعات التي كانت تحت تصرفهم بخلايا إسقاط الحق ثم ديوان الأراضي الدولية.
لا يتوافق تصور اتحاد العمال مع ما يطلبه الفلاحون رغم أنه يمتلك رؤية أشمل أوضح وهو الأكثر تنظيما. ويرتكز مشروعه على تنويع الإنتاج وبعث نقاط بيع من المنتج إلى المستهلك.
ليس تصور اتحاد العمال الحل المثالي لمشكلات الفلاحين، فالمشرع التونسي صادق على قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي منذ 2020 . ولم تصدر بعدُ النصوص التطبيقية لهذا القانون الذي من شأنه المساعدة على حل مشكلات الفلاحين.
خيار الانفتاح وتأثيره على قطاع الفلاحة
بعد أن كانت الفلاحة عمود الاقتصاد التونسي من حيث الإيرادات والقدرة التشغيلية، وبعد إفشال تجربة التعاضد، انتقلت الدولة إلى انفتاح اقتصادي، و شجعت الفلاحين على إنتاج المواد الزراعية القابلة للتصدير إلى الأسواق الأوروبية وجلب العملة الصعبة، خاصة زيت الزيتون والحمضيات. كما أنها بدأت تتخلى عن مبدأ السيادة الغذائية لصالح معيار التكلفة. فمثلاً أصبحت تعتبر أن استيراد الحبوب يكلف أقل من إنتاجها في تونس.
وتراجعت مساهمة قطاع الفلاحة في الناتج الداخلي الخام من نسبة 20 % في الفترة الممتدة بين 1960/70 إلى 9 % سنة 2011. هذا وتضاف إلى الأزمة اتفاقية الشراكة الشاملة والمعمقة بين تونس والاتحاد الأوروبي التي من شأنها تعميق الأزمة حيث تنص على تحرير المبادلات الفلاحية التي كانت مستثناة من الاتفاقيات السابقة.
اللحظة السياسية بعد 25 جويلية: الشعبوية تنوم الجماهير
جاء منعطف 25 جويلية ببعض الأمل في التغيير، لكن سرعان ما تبخر في زحام النصوص وغياب التصورات الاقتصادية. وأطل الرئيس قيس سعيد برأسه طارحا شركات أهلية التقطها جل البسطاء من فلاحين ومزارعين متوقعين أنها الحل السرمدي.
ويبدو أن ذهنية المزارع لا تنتبه إلى الأفكار والحلول بقدر ما تعول على صاحب الفكرة. ستزيد هذه النفسية العامة المسيطرة على وجدان المحرومين من الأرض، ومن الشغل والحياة بكرامة، من تعميق الأزمة وتأخير لحظة الحقيقة.
شهر جانفي الذي يشهد أعرم الاحتجاجات ضد كل الحكومات التي سبقت حكومة نجلاء بودن نسي أن يأتي هذه السنة، ومر ثقيلا على المقدرة الشرائية وخاليا من الاحتجاج.
لم يجد سؤال الأرض، والسيادة الغذائية والاكتفاء الذاتي، الجواب المنشود. وقد تتأخر سياسة فلاحية عمادها السيادة الغذائية سنوات حتى تنضج الظروف الموضوعية. فالمزارع التونسي يستبطن كونه “خماسا” ولا يرى أنه صاحب الأرض.
لن ينتهي الحراك في الاقصاب، وسينتشر في كامل محافظة سليانة من الشمال الغربي التونسي، لكن أعوان النظام المرتبطين بالفلاحين سيواصلون دور المطافئ.
بقلم/ محمد علي بوعلاق
تونس
المرفقات
صور الإعتصام | رابط درايف |
فيديو الكاتب العام الجهوي لإتحاد الشغل | فيديو |
فيديو للعمال المطرودين | فيديو |
فيديو مهندسة فلاحية من لقصاب | فيديو |
تصريحات بعض المعتصمين | فيديو |
المعهد الوطني للإحصاء | المعهد الوطني للإحصاء |