شبح فيروس كورونا المستجد (covid-19) يخيم على العالم: يركز الجميع على إجراءات الوقاية من ذلك الفيروس والحد من انتشاره بين البشر، وبالأخص من خلال الكشف المبكر عن الحالات المصابة به. ثمة مقاربات مختلفة للتعامل مع الفيروس من قبل الحكومات، واتهامات ونظريات مؤامرة حول منشأ الفيروس. وكثير من الحقد والعنصرية توجه نحو الصينيين: هؤلاء الذين يأكلون الخفافيش هم السبب في هذا الوباء، لو لم يأكل الصينيون الخفافيش لما وصلنا لما نحن فيه. يبدو هذا التفسير سهلًا، لكن ثمة أسباب هيكلية مركبة لظهور تلك الأوبئة. في جزء كبير منه، يرجع الأمر إلى الطريقة التي أصبح بها البشر ينتجون غذائهم في ظل ما يسمى بالزراعة الرأسمالية والتي تعتمد على المزارع الكبيرة من أجل إنتاج اللحوم والنبات لغذاء الإنسان.
الاعتقاد السائد بين العلماء حتى الآن إن فيروس كورونا بدأ في أحد أسواق اللحوم الحية في «ووهان» في الصين، والتي تباع فيها لحوم مختلفة من أنواع مختلفة من الحيوانات البرية كالثعابين والخفافيش. يعتقد أن فيروس كورونا انتقل من الخفافيش إلى حيوان يدعى «آكل النمل الحرشفي» ومنه إلى البشر. لم يكن كورونا هو الفيروس الوحيد الذي انتقل من الخفافيش. في 2015، اكتشف العلماء أن الخفافيش كانت مصدرًا لفيروس «إيبولا» الذي ضرب أجزاءً مختلفة من دول غرب إفريقيا.
معظم الفيروسات التي ضربت العالم في العشرين سنة الأخيرة بدأت من الطيور والحيوانات المختلفة، سواء كانت مستأنسة أو برية. بدأت انفلونزا الطيور في جنوبي شرق الصين، وتطورت فصائل الفيروس في مزارع الدجاج التي تديرها الشركات الكبرى في الغرب الأوسط الأمريكي. انتقل «الإيدز» من القرود نحو البشر، «سارس» من القطط البرية إلى البشر. هذا طبيعي، الحيوانات البرية مستودع لأنواع مختلفة من الفيروسات. وبالتالي، كلما زاد احتكاك الإنسان بتلك الحيوانات البرية فإنه ما يلبث أن يصاب بفيروساتها هو الآخر. لا يستهلك كل البشر تلك الحيوانات البرية. أغلبها يُباع بأسعار مرتفعة جدًا بسبب معتقدات شعبية في الصين حول أنها تساهم في علاج القدرات الجنسية أو أن أكلها يجلب الحظ، ويستهلكها بشكل أساسي الأغنياء والطبقة الوسطى. من السهل أن نلوم الصين، وكيف يساهم أكل الخفافيش في انتشار الأمراض، لكن ثمة أسباب هيكلية معظمها يقع في نطاق الاقتصاد الزراعي، والكيفية التي أصبح بها البشر ينتجون غذائهم الآن، وكيف تؤثر في ظهور وانتشار تلك الأوبئة.
يدرس البيولوجي روب والاس العلاقة بين طرق إنتاج الغذاء الحديثة والمتعلقة بالشركات الكبرى التي تحاول استغلال كل شبر من هذه الطبيعة في إنتاج الغذاء، وبين انتشار الأوبئة في العقدين الأخيرين. كتب والاس كثيرًا عن تلك العلاقة، أبرزها كتابه الصادر في 2016 تحت عنوان «المزارع الكبيرة تصنع انفلونزا كبيرة Big Farms Make Big Flu». عمل والاس سابقًا في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، وقضى ما يقرب من ربع قرن في دراسة تطور الفيروسات خاصة الانفلونزا، لكنه أصبح أحد الأصوات المهمشة بسبب ضغوط لوبي الشركات الكبرى في مجال الزراعة الرأسمالية والتصنيع الحيواني.
في كتابه، يتتبع والاس ما يسميه «جغرافيا الأوبئة»، بمعنى التفاعلات الأولى بين الإنسان وتلك الأوبئة التي ظلت كامنة في عمق الغابات لمئات السنين. كما يتتبع والاس العلاقة بين الشركات المتعددة الجنسية والأوبئة، وكيف يساهم نمط إنتاج الطعام الحالي في تسهيل انتقال وتحور الفيروسات القاتلة من الحيوانات والطيور إلى البشر.
جنة الفيروسات السعيدة
بدأت الثورة الصناعية تتسرب للزراعة وتربية الحيوان في الولايات المتحدة قبيل الحرب العالمية الثانية. في تلك الفترة، كانت الولايات المتحدة أسيرة لنمط الإنتاج الفوردي -نسبة إلى هنري فورد- والتي أنتجت فوائض كبيرة في إنتاج السلع الكمالية، خاصة السيارات، عبر إعادة تنظيم المصانع لتكون خطوط إنتاج متكاملة تحت نفس السقف.
ألهمت تلك الفكرة مزارعي الدجاج الصغار في الولايات المتحدة لاستخدام هذا التنظيم المُركز للعمل داخل مزارعهم: بدلًا من أن تربي 50 دجاجة في حظيرة منزلك، وتبيع بيضها لأحد الشركات الصغيرة، ثم تبيع الدجاج لشركة أخري بدورها تكمل سلسلة الإنتاج، أصبح من الممكن الآن إنتاج كل شيء في نفس المكان. يمكنك أن تربي 12 ألف دجاجة في مكان واحد وتضعهم في عنابر مكتظة. هذه العنابر تسهل عملية انتقال تلك الأوبئة.
تزيد تلك الأعداد الكبيرة من قدرة الفيروس على القيام بما يشبه عملية «الانتخاب الطبيعي». وكما تعمل آلية التطور البشري عبر التجربة والفشل وإعادة التجربة، تتطور الفيروسات بنفس الطريقة. توفر تلك البيئات المزدحمة بالحوامل المفترضة للفيروس فرصة ذهبية للفيروس من أجل أن يجرب ويفشل، أو ينجح في النهاية. تلك الحيوانات (الحوامل) مكدسة في مزارع كبيرة، وتأتي فصائلها المختلفة من كل أنحاء العالم لتوضع معًا في نفس العنبر. في كل الأوبئة التي عرفها العالم في العقدين الأخيرين تقريبًا، كانت التربية الجماعية لتلك الطيور والحيوانات مسؤولة عن إعادة بعث تلك الفيروسات للحياة مرة أخرى.
مثلًا، انتقل فيروس انفلونزا الطيور من المزارع الكبيرة في «غواندونغ»، ومنها إلى هونج كونج وبقية دول العالم. سعى علماء الفيروسات في جامعة هونج كونج إلى تعقب أصل الفيروس، واكتشفوا أن الأمصال المعدلة وراثيًا للوقاية من انفلونزا الطيور، والتي كان أصحاب المزارع يستخدمونها في تلك الفترة، قد تكون سببًا مباشرًا في تحور الفيروس لتلك السلالة الأكثر خطورة. بدأت انفلونزا الخنازير أيضًا من المزراع الكبيرة في الغرب الأوسط في الولايات المتحدة، ويعتقد أن تلك السلالة الجديدة من الفيروسات كانت نتيجة حدوث تحور لإحدى سلالات انفلونزا الطيور، وحدوث تداخل بينها وسلالات الانفلونزا التي تصيب الخنازير.
كيف حدث هذا التحور؟ هل كان احتكاك طيور مصابة بانفلونزا الطيور مع خنازير مصابة بالانفلونزا هو السبب؟ لا أحد يمتلك الإجابة حتى الآن. تمتلك الفيروسات ذاكرة جينية جيدة، وتقوم بالكثير من عمليات التحور الفاشلة التي تؤدي لانقراضها. ولكن إذا نجحت عملية واحدة تحور واحدة، يعني ذلك أن ذاكرة الفيروس الجينية ستكون أفضل في المرات القادمة. يمكن للفيروس أن يتعلم من أخطائه ويعدل تركيبته الجينية من أجل تسهيل الانتقال من حامل إلى آخر بشكل سريع في البيئات الطبيعية، فما بالك ببيئات بها هذا العدد الهائل من الحوامل المفترضة له.
النيوليبرالية هي التي جعلت سلاسل الإنتاج العالمية أكثر ارتباطًا، خاصة في الإنتاج الزراعي. شجعت العولمة النيوليبرالية الجميع على الانخراط في الاقتصاد العالمي، وتعميم نمط المزارع الكبيرة لإنتاج الغذاء وتصديره إلى بلاد أخرى. ذلك الارتباط الشديد كان مدفوعًا بالبحث عن الأرباح لرخص العمالة في جنوب العالم ووفرة الموارد والأراضي الزراعية غير المستغلة في الجنوب . شجعت شركات الأطعمة السريعة على استهلاك البشر للمزيد من اللحوم، وبالتالي دفعت أموالًا كثيرة لتعميم هذا النمط الرخيص من الإنتاج الحيواني.
تدريجيًا، أدى هذا النمط الجماعي للإنتاج الحيواني -بالإضافة إلى تقنيات جديدة مثل الهندسة الوراثية- إلى استبدال البيئات الطبيعية التي تنمو فيها الحيوانات بأخرى مهندسة وراثيًا. كانت تلك البيئات الطبيعية، والتي تعتمد على عملية التغذية الطبيعية لقطعان صغيرة من تلك الحيوانات. ومن ثم فإنها توفر لنظمها المناعية فرصة للتطور الطبيعي والتغلب على الفيروسات حال مهاجمة الأخيرة لها. لكن تلك البيئات الصناعية التي تستخدم تقنيات الهندسة الوراثية للتغذية والعلاج تجعل الأحماض النووية لتلك الحيوانات متشابهة لحد كبير عبر توفير الظروف المتماثلة لتربية تلك الأعداد الكبيرة جميعها في حظيرة واحدة. بالتالي، لا يمكن أن نخلق نحن البشر مكانًا أفضل لانتقال الفيروسات والأوبئة من حيوان لآخر، لأننا جعلنا الأنظمة المناعية لتلك الحيوانات متشابهة.
تلعب هنا الأمصال واللقاحات المعدلة وراثيًا دورًا رئيسيًا في جعل الأنظمة المناعية لتلك الحيوانات أكثر هشاشة. تمامًا كما يعمل استهلاك المضادات الحيوية في البشر، فمن شأن الاستخدام المفرط لتلك المضادات الحيوية أن يجعل النظام المناعي للبشر أقل قدرة على مقاومة الفيروسات. ذلك ما يحدث تقريبًا في تلك المزارع الجماعية فمن أجل أن تسيطر على تفشي وباء في وسط الدواجن مثلًا، تُعطى تلك اللقاحات لتلك الدواجن، ولكن مع تلك الأعداد الكبيرة تزيد فرصة الفيروس في التحور لنسخة أكثر فتكًا والتغلب على اللقاح، وإذا حدث ذلك في دجاجة واحدة فإن الفيروس ما يلبث أن ينتقل للأخرى وهكذا. هذا التطور البيولوجي للفيروسات كما في الإنسان هو نتاج وفرة الأخطاء. وبالتالي، مع الوقت نجد أنفسنا في سباق محموم مع تطور الفيروس وحاجة ماسة لتطوير لقاحات أكثر تطورًا لتتماشى مع تحورات الفيروس، وهو سباق رغم كل التطور العلمي تكسب فيه الفيروسات لأننا وببساطة على ملعبها في تلك الحالة. فلقد وفرنا لها العدد الكبير لتجربة أنفسها والتعلم من أخطائها.
لكن الشركات الكبرى، والتي تعلم استحالة أن يكسب البشر هذا السباق المحموم، بدلًا من التوقف عن نمط الإنتاج المربح هذا، اخترعت لغة علمية جديدة متعلقة بالإجراءات الصحية والوقائية التي من المفترض بها منع انتقال تلك الأوبئة: اشتراطات بيئية فرضتها الحكومات، وغيرها من الإجراءات الصغيرة التي من المفترض أن تجعلنا أكثر قدرة على احتواء تلك الفيروسات في حال ظهورها. ومع أن عملية الاحتواء تلك تبدو مستحيلة عمليًا بين الحيوانات والبشر على حد سواء إلا أن الشركات ما زالت مستمرة في نفس الطرق. يكفي فقط أن ينتقل الفيروس لأي إنسان حتى ما يلبث أن يتحول إلى وباء. أصبحنا ننتج الدواجن والخنازير وغيرها من الحيوانات على نطاق واسع، ومعها نتيح فرص أكبر للفيروسات التي تعيش داخل تلك الحيوانات أن تنتقل إلينا بسهولة.
لم يكن ذلك هو الحال فقط مع مربي الدجاج في الغرب الأوسط الأمريكي، لكن في كل مكان تقريبًا في العالم. تم تعميم هذا النمط الجماعي لإنتاج اللحوم. ومع الوقت، تمت عولمة تلك الطرق، وأصبح من الممكن أن تستخدم نفس الأعلاف والأمصال المهندسة وراثيًا في الصين كما في الولايات المتحدة. وعبر سلاسل الإنتاج العالمية، يمكن أن تنتقل تلك الفيروسات بسهولة.
مثال آخر على رحلة الفيروسات السعيدة في جنة الرأسمالية هو مزارع زيت النخيل في غربي إفريقيا، والتي استحدثتها شركات عالمية من أجل الاستفادة بزيت النخيل الرخيص. من أجل ذلك، عمدت تلك الشركات إلى تدمير واسع للغابات من أجل استخدام تلك الأراضي في الزراعة. في تلك الحالة، يزيد تعامل الإنسان مع الحيوانات البرية مثل القرود، مصدر فيروس الإيدز، أو الخفافيش، مصدر إيبولا وفيروس كورونا الحالي. ذلك السعي الحثيث للربح يدمر البيئات الطبيعية لتلك الحيوانات البرية، والتي كانت فيها أجهزتها المناعية قادرة علي التكيف مع الفيروسات، أو بوجود مفترسيها الطبعيين فإنه غالبًا ما تحافظ على هذا التوازن البيئي الدقيق التي تعمل فيه آليات الطبيعة بشكل كفء. وبالتالي حين تموت تلك الخفافيش، تتخلص أجسامها من الفيروسات. تزيد تلك الزراعة الأحادية من احتكاك الإنسان المباشر مع تلك الفيروسات في مناطق كثيرة في العالم. لم يكن من قبيل الصدفة أن يبدأ إيبولا في تلك المزارع، وينتقل بعدها للمناطق الحضرية. أصبح ذلك الإنتاج الزراعي التي ترعاه الشركات الكبرى قادرًا على نقل الفيروسات من قلب الغابة نحو المزرعة، ومن المزرعة إلى البشر. وفي عالم معلوم بالكامل، يكفي أن تحدث إصابة واحدة حتى ينتشر الفيروس في بقية أرجاء العالم.
لمئات السنين، كانت فيروسات إيبولا والإيدز وغيرها من تلك الأوبئة موجودة في الطبيعة. في الغالب، كانت تلك الفيروسات تصيب الحيوانات الحاملة لها، ثم تموت تلك الكائنات أو يستطيع جهازها المناعي الحيلولة دون تحور الفيروس لنسخة أكثر فتكًا. لكن التفاعل المباشر بين تقنيات الزراعة الرأسمالية والاحتكاك الزائد مع تلك الحياة البرية والنظم البيئية المعقدة؛ جعل تلك الفيروسات تخرج من مكامنها لتصبح أكثر قدرة علي التحور والتأقلم مع بيئة متغيرة بفعل الزراعة الرأسمالية.
وماذا عن فيروس كورونا المستجد؟
قد يري البعض أن تلك الأنماط الإنتاجية للغذاء ليس لها علاقة بفيروس كورونا المستجد، والذي جاء بالأساس من قلب مدينة حضرية مثل ووهان. لكن الأمر يتعلق بعملية مركبة عبر سنوات عديدة يستطيع الفيروس فيها تعديل تركيبته الجينية لتصبح أكثر قدرة على الانتشار، وأكثر فتكًا في الوقت ذاته. في حالة فيروس كورونا المستجد، كان التفاعل بين آليات السوق الرأسمالي والإنتاج الجماعي للغذاء واضحًا. الحكومة الصينية، وبعد مجاعة كبيرة في نهاية الخمسينات لجأ الناس فيها للاعتماد على أي شيء من أجل الأكل، أخذت في تسهيل اصطياد تلك الحيوانات البرية وتربيتها من أجل الطعام. أنتج ذلك، بعد عقود طويلة، مزارع كبيرة لتلك الفصائل البرية من الحيوانات، وبالتالي بيئة خصبة لانتشار الفيروسات وتحورها في رحلة الانتقال نحو البشر.
ينتمي فيروس كورونا المستجد (covid-19) إلى عائلة فيروسات كورونا التي توجد في أنواع مختلفة من الحيوانات. سارس جاء من إحدى فصائل القطط البرية، متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS) جاءت من الجمال. وفي كل الحالات، لعب الإنتاج الجماعي والتربية الجماعية لأعداد كبيرة من تلك القطعان أدوارًا مختلفة في تعديل الفيروس تركيبته الجينية. وبالتالي مهد الطريق لظهور سلالات أكثر فتكًا من تلك الفيروسات.
تغير تلك التقنيات الحديثة للزراعة الجماعية والرأسمالية كثيرًا من النظام البيئي. تنقل الحشرات مثل البعوض المسبب لفيروس زيكا [فيروسات تنقلها حشرات البعوض للإنسان وتسبب الحمى والطفح الجلدي والتهاب الملتحمة وآلام العضلات والمفاصل] من قلب الغابة نحو الحضر، وتلعب عبر الهندسة الوراثية دور المسهل لتحور تلك الفيروسات وتسهيل انتقالها من حامل لآخر، ومن دولة لأخرى، بسهولة كبيرة.
شيدت الرأسمالية منذ مئات السنين على الاستيلاء والتدخل الممنهج في النظم البيئية المختلفة، بداية من استخراج الوقود الأحفوري من باطن الأرض وحتى الزراعة الرأسمالية. جميع تلك الأنماط الإنتاجية هدفها الأساسي هو تحقيق الربح. صغار الفلاحين ومنتجي اللحوم في العالم أجمع يعملون تحت ضغط تقليل النفقات في إطار المنافسة مع الشركات الكبرى. إذا كانوا يريدون الاستمرار في السوق، يعني ذلك في أحيان كثيرة تقليد نفس الطرق التي تتبعها تلك الشركات في الإنتاج. لكن ما جعل النيوليبرالية أكثر سوءًا في ذلك هي أنها جعلت تلك الأنماط الإنتاجية عالمية: من الغرب الأوسط في الولايات المتحدة، إلى الصين، إلى الكونغو، الكل أصبح داخل سلسلة الإنتاج العالمية للغذاء. ذلك النمط المعولم لإنتاج الغذاء لم ينجح في القضاء علي الفقر والجوع في العالم كما وعد منذ أكثر من ثلاثة عقود حينما تبنت المؤسسات الدولية استراتيجية عالمية لمكافحة الجوع، بل قاد أسعار الغذاء العالمية للارتفاع. هذا النمط يستمر في تدمير النظم البيئية الطبيعية والتي تشكل مناعة طبيعية ضد الفيروسات.
تسببت النيوليبرالية في تسهيل انتشار تلك الأوبئة، واليوم تريد أن تخلق حالة من الاستثناء بفعل ذلك الوباء. الحقيقة أنه لا استثناء ممكن في مثل تلك الأوبئة. فكما شهد العالم انتشار «سارس»، وانفلونزا الطيور والخنازير و«إيبولا» وغيرها من الأوبئة، سوف يشهد في المستقبل أوبئة أخرى. المثير للدهشة أن شركات الأدوية الكبرى امتنعت عن إنتاج لقاح مضاد لنفس الفيروسات من عائلة فيروس كورونا بسبب انخفاض ربحية مثل تلك الأمصال، لأنها تستخدم فقط لأوقات قصيرة من الزمن. بالتالي تسببت النيوليبرالية في خروج تلك الفيروسات، واليوم تتباطأ في محاولة إنتاج الأمصال منتظرة الحصول على الدعم المالي من الحكومات لتتحرك من أجل إنتاجه.
تنحصر النقاشات حول اقتصاديات الأوبئة في جانب ردة الفعل المختلفة للحكومات وقت انتشار الوباء. جوانب مثل الإنفاق على الرعاية الصحية والتغطية التأمينية للمصابين وإجراءات العزل القاسية تصبح محور النقاش العام في محاولة احتواء تلك الأوبئة الكبرى. وعلى امتداد التاريخ البشري، لعبت الأوبئة دورًا هامًا، وكانت أكثر فتكًا من الآن. لكن اليوم، وبفضل تطور الطب ونظم الرعاية الصحية، أصبح بمقدور البشر السيطرة علي معدلات الوفيات الناجمة عن تلك الأوبئة. لكن الحلقة المفقودة دائمًا في النقاش هي الأسباب الهيكلية التي تؤدي لظهور تلك الأوبئة. ليس الأمر محض صدفة كونية بل أن هناك سببًا دائمًا. محاولة الإنسان المستمرة العبث في النظم البيئية تجلب الشر، لكن تلك المحاولات والتي كانت في السابق محدودة بقدرة الإنسان، أصبحت اليوم بلا حدود بسبب التكنولوجيا الجديدة. وفي رحلة البحث عن الأرباح تجد الشركات مبتغاها بينما يتحمل بقية البشر نتائج ذلك العبث مع النظم البيئية الطبيعية.
محمد رمضان