الفلاحون والثورة المستمرة في مصر



في سبتمبر 2020، خرج المئات من الفلاحين المصريين، وسكان الريف بشكل عام، في مظاهرات احتجاجية نادرة في ظل الوضع السياسي والأمني الخانق في مصر. كانت تلك الصورة جديدة كليا على النشطاء المدينين الذين لم يعتادوا رؤية مظاهرات يتصدر مشهدها الاحتجاجي الأساسي أناس يرتدون الجلاليب ، هذا الملبس التقليدي لفلاحي مصر.

سميت هذه الحركة الاحتجاجية المباغتة ” ثورة الجلاليب “، وهي مرتبطة بالأساس بقانون التصالح على مخالفات البناء في مصر، وبقيام الحكومة بهدم منازل فلاحين بُنيت، على أراض زراعية، وهي ممارسة سائدة في الريف المصري منذ عقود. وتعبر في لبها عن نتيجة مباشرة لإفقار ملايين الفلاحين المصريين بفعل السياسات النيو ليبرالية .

ذلك التفاجؤ الحضري بتظاهرات الفلاحين، والتردد في بعض الأحيان في دعمها، يعكسان نوعا من الاستشراق المديني تجاه الريف في مصر. فغالبا ما ارتبطت القراءات الحضرية للانتفاضات الجماهيرية في مصر بالمدينة وبالقدرة على ممارسة الاحتجاج المديني عبر استراتيجيات أهمها احتلال الميادين الرئيسية. وهي بالمناسبة الاستراتيجية الثورية الأكثر نجاحا في الحالة المصرية. لكن قصر تلك الحالة الثورية على المدينة يؤدي في النهاية إلى قراءات قاصرة للحظة الثورية في مصر. وغالبا ما  شكلت تلك القراءات الحضرية واللحظية للثورة المصرية حائلا دون قراءة وفهم وتحليل العلاقة بين الفلاحين والدولة في مصر. هذه العلاقة  التي غالبا ما يروج أنها جيدة، فمعظم داعمي النظام السياسي يتركزون في الريف، ما يظهر في تأييد الريفيين لمرشحي النظام في الانتخابات. لكن تلك القراءة قاصرة جدا، وتتغافل عن حقائق واقعية وتاريخية في فهم الفلاح المصري وتفاعله المستمر مع الدولة.يعتمد هذا المقال بالأساس على قراءة صقر النور في دراسته الرائدة عن دور الفلاحين في الثورة المصرية والموسومة ” الفلاحون والثورة في مصر: فاعلون منسيون “، بالإضافة إلى بعض الملاحظات التحليلية حول الغضب الريفي في مصر في الوقت الحالي، وهو بنظري بالغ الأهمية في فهم دور فلاحي مصر في الثورة المصرية.

الثورة كعملية مستمرة

تقدم أدبيات عديدة قراءات واسعة للثورة المصرية في 2011 غير قائمة على لحظة الثمانية عشر يوما التي أدت بدورها إلى إزاحة مبارك، بل على فهم الاحتجاج الريفي والمديني المستمر في مصر منذ منتصف التسعينات تقريبا وحتى الآن بما هو جزء من الاحتجاج على السياسات النيو ليبرالية في الجنوب العالمي. تشمل تلك القراءات إسهامات حديثة لجلبير الأشقر حيث يصف الربيع العربي بأنه سيرورة ثورية طويلة الأمد، وأيضا قراءات سمير أمين عن استكمال تلك الثورات لمهام التحرر الوطني في الجنوب العالمي.

كانت التحولات النيو ليبرالية المدفوعة بسياسات التقشف في مصر شديدة التأثير على القطاع الفلاحي، كما في مجمل دول الجنوب العالمي تقريبا. بدأت تلك التحولات أو الثورة المضادة في القطاع الزراعي بصيرورة مستمرة من القرارات والسياسات العامة منذ منتصف بداية السبعينات. لكنها تسارعت منذ التسعينات، ففي العام 1992 وافق البرلمان المصري على  قانون “إصلاح العلاقة الايجارية بين المالك والمستأجر” القاضي بزيادة القيمة الإيجارية من 7 أمثال الضريبة السارية على الأطيان الزراعية إلى 22 مثل الضريبة خلال الفترة الانتقالية المقدرة بخمس سنوات. ثم بعد ذلك تترك الحرية للسوق لتحديد قيمة الإيجار وتضمن مرحلة انتقالية انتهت في أول أكتوبر 1997 لتتحرر العلاقة الإيجارية تماماً.

كان قانون الإيجارات الزراعية حاسماً في التحول النيو ليبرالي في قطاع الزراعة ، إذ أنهى مكاسب الفلاحين الفعلية  من قوانين الإصلاح الزراعي الناصرية، وهي الامان الايجاري وتعريف المستأجر والمشارك بما هو “حائز للأرض مثله مثل المالك مما يضيف إليه حزمة من الحقوق المرتبطة بالحيازة مثل “التصويت في الجمعية والحصول على التقاوي والأسمدة المخفضة والاقتراض من بنك التسليف أو التنمية والائتمان الزراعي.

تسبب هذا القانون في طرد حوالى 904 ألف مستأجر، ما يعنى زهاء خمسة ملايين أسرة مصرية،  431 ألف أسرة تضررت كليا من جراء القانون، و ألف أسرة فقدت في المتوسط 46% من دخلها جراء ارتفاع الإيجارات الزراعية المستمر منذ تطبيق القانون الجديد في نهاية التسعينات، حيث ارتفعت الإيجارات من 400 جنيه سنويا للفدان إلى ما  يقارب حاليا 8000 ألاف جنيه للفدان.

تميزت فترة تطبيق القانون بضراوة المقاومة والإصرار على التمسك بالحق في الأرض بكافة الوسائل بما فيها العنف، ما يتناقض مع الصورة الشائعة حول سلبية الفلاح المصري واستكانته. فعلى سبيل المثال، قام فلاحو قرية الشناوية ببني سويف بإغلاق الطريق الزراعي، ووقف حركة القطارات، وتحطيم نوافذ القطارات المتجهة إلى القاهرة. وفي لا سيفر بكفر الشيخ، نشبت معارك عنيفة بين المستأجرين وعائلة المالك. وفي عزبة الزيني بالدقهلية، رشق المستأجرون أقارب المالك بالحجارة، وحاولوا تحطيم سيارات الشرطة. وفي قرية أبو نصار في الفيوم، نشبت معركة بين المستأجرين والملاك أسفرت عن سقوط أربعة قتلى وأكثر من خمسين مصابا.

كان هذا القانون تتويجا لجهود انسحاب دولة الكلي من دعم ملايين الفلاحين في القرى المصرية، والذين بدورهم ساهموا في تطوير الغضب الشعبي تجاه نظام مبارك. احتج الفلاحون في القرى المصرية على قانون الإيجارات الزراعية، ما فسرته بالطبع القوى السياسية المعارضة لمبارك في تلك الفترة على أنه مقدمة لثورة الفلاحين على نظام مبارك. ظهر شكل الاحتجاجات العنيف في أكثر من قرية، ففي قرى مثل كفر حكيم بالجيزة، وصفت العرفة ببني سويف، تم حرق الجمعية الزراعية وفرع بنك التنمية والائتمان الزراعي. وحدثت صدامات عدة بين الفلاحين المستأجرين من جهة وأصحاب الأرض المدعومين من قوات الشرطة من جهة أخرى. وجرى أبرز هذه النزاعات في قرى الدقهلية والفيوم والجيزة. اتخذت تلك الاحتجاجات الفلاحية ضد القانون طابعا مفتتا. وبوجه عام، كان عدد الاحتجاجات محدودا. فمن بين 4376 قرية في مصر، شهدت 105 قرية فقط مقاومة للقانون، أو 2.4% من القرى. ومن ثم، فقد كان حجم المقاومة الفعلي للقانون غير متناسب مع الأثر المدمر المتوقع أن يحدثه على حياة مئات الآف الأسر الفلاحية. وفي النهاية، لم تستطع المقاومة التي أبداها الفلاحون إجبار الدولة عن التراجع عن تطبيق القانون أو حتى إرجائه.

الثورة من الريف إلى المدينة

من نهاية سنوات التسعينات وحتى العام 2011، اتخذت الدولة المزيد من الخطوات نحو التحول النيوليبرالي. وشهدت هذه الفترة زيادة وتيرة الاستحواذ على الأراضي الجديدة من قبل المستثمرين والشركات الأجنبية والمحلية بقصد تطوير الزراعات التصديرية التي كانت جزءا أصيلا من التحول الزراعي النيوليبرالي في مصر. لكن ذلك النزع المستمر للقيمة الاقتصادية من القطاع العام نحو قلة من رجال الأعمال في القطاع الخاص تجسد بشكل أكبر في برنامج الخصخصة الحكومية، والذي أدى بدوره إلى انتقال الاحتجاج من الريف إلى المدينة حيث ملايين العمال المعرضين للتشرد بفعل تلك السياسة الاقتصادية. انتقلت مع تلك الانعطافة الاقتصادية دفة الاحتجاج من الريف إلى المدينة، وظهر ذلك في الإضرابات العمالية، وأشهرها إضراب المحلة في العام 2006 والذي تأسست عليه الحركات السياسية الرئيسة في ثورة يناير وأهمها حركة شباب 6 إبريل. كان ذلك الضغط المستمر من نظام مبارك على الطبقات الريفية والمدينية على حد سواء، لكن الانفجار جاء في ميدان التحرير في العام 2011.
رأي الفلاحون في الثورة فرصة لاستعادة حقوقهم المنهوبة، ما يبرر النشاط السياسي والتنظيمي للفلاحين في أثناء الثورة  وبعدها مباشرة في العام 2011. فخلال فترة انفتاح المجال العام من 2011 وحتى منتصف العام 2013 ، سعى الفلاحون إلى تأسيس نقابات مستقلة تعبر عن مطالبهم الحقيقية بعيدا عن نقابة الفلاحين الرسمية التي ترعاها الدولة. يشير صقر النور في دراسته عن الفلاحين والثورة أنه بعد رحيل مبارك تأسست أربع نقابات فلاحية جديدة، أولها الاتحاد العام للفلاحين برئاسة شاهندة مقلد، وهي قيادية يسارية –تروتسكية- طالما ناضلت ضد الاقطاع من قريتها كمشيش. وثانيتها النقابة العامة للفلاحين وتعبر بشكل أكبر عن مصالح متوسطي الفلاحين بالوادي والدلتا، وتكونت ثالثتها متأخرا وهي اتحاد فلاحي مصري أسسته جماعة الإخوان المسلمون. وآخرتها نقابة الفلاحين المستقلة وهي مدعومة من مركز الأرض لحقوق الإنسان، وهو هيئة مستقلة ناشطة آنذاك.
لكن أشكال الحراك الفلاحي المرتبط بالثورة لم يقتصر على تأطير آلاف الفلاحين في النقابات، هذه التي غالبا ما تتحول مع الوقت إلى أشكال تنظيمية بلا فائدة بفعل البيروقراطية وصعوبة انخراط  الفلاحين الفعلي في أنشطتها وهشاشة تنظيماتها الداخلية، بل شارك الفلاحون  أيضا في مئات المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية وارتفعت رايات المطالب الفلاحية القديمة  مرة أخرى. فقد طالب فلاحو الإصلاح الزراعي باستعادة أرضهم من الاقطاعيين الذين استولوا عليها في نهاية سنوات السبعينات بعد قوانين السادات لرفع الحراسات. وطالب مزارعو الأرز بحصص مياه إضافية، وطالب المتضررون من قانون 96 لسنة 1992 باستعادة أرضهم التي كانوا يستأجرونها ويزرعونها من الملاك وإعادة النظر في القانون الجائر.

ملاحظات ختامية حول الدولة والفلاحين في مصر

لا يمكن النظر إلى وضع الفلاح المصري في تفاعله مع السياسة سواء من خلال الأشكال الاحتجاجية أو التنظيمية المختلفة بعيدا عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية في الريف المصري في العقود الثلاثة الأخيرة. فقد غيرت التحولات النيوليبرالية شكل الحياةكليا في الريف كليا، إذ أصبحت الزراعة نشاطا أقل أهمية بالنسبة للأسر الريفية، حيث أصبح أصحاب الملكيات الصغيرة والمتوسطة أكثر ميلا إلى العمل في وظائف أخرى بجانب الزراعة. لا يمكن اعتبار الأمر وفاة للفلاح المصري بالمعني التقليدي، فما زال هناك ملايين الفلاحين ذوي حيازات صغيرة ومتوسطة يعتمدون على الزراعة بشكل أساسي في تأمين حاجاتهم المعيشية. يضطر هؤلاء الفلاحون لتأجير أراض يقيم أصحابها بالمدن، وذلك بأسعار مرتفعة. ومع رفع الدعم كليا تقريبا عن البذور والأسمدة وغيرها من مدخلات الإنتاج،  باتت كلفة المدخلات الزراعية كبيرة، ما يسهم في زيادة إفقار الفلاحين. لذلك ترتبط التحركات السياسية والاحتجاجات المحدودة للفلاحين بشكل مباشر في مصر بمشاكل الزراعة، ويظهر ذلك في عدد متنام من الإضرابات في مواعيد تسليم المحاصيل، لاسيما تلك التي تشتريها الدولة كقصب وبنجر السكر والقمح والتي يطالب الفلاحون سنويا بزيادة أسعارها.
كما يُستشف من الوضع السياسي الحالي، مع صعوبة التنظيم والتطويق الأمني المشتد للمجال العام، أن أي تحرك سياسي قد يعرض صاحبه للخطر والاعتقال من قبل السلطات، لذلك تظل كل إمكانية تنظيمية للفلاحين في الوضع الحالي بالغة الصعوبة. لكن بالرغم من كل تلك الصعوبات السياسية والأمنية، كان الفلاحون جزءا مباشرا من الاعتراض على سياسات الدولة في الآونة الأخيرة. وخاصة تلك المتعلقة بقوانين التصالح في مخالفات البناء، فقد كانت حركة الفلاحين العفوية وغير المنظمة في القرى تعبيرا عن شكل متجذر من المقاومة للدولة في الريف المصري.
تحتاج تلك الأشكال الاحتجاجية العفوية لمزيد من العمل والتنظيم حتى تخرج ككيانات يمكنها التعبير الفعلي عن مصالح ملايين الفلاحين في الريف المصري،ومزيدا من الوقف لفهم ديناميات التفاعل السياسي والاجتماعي في الريف المصري، وتطوير المعرفة المدينية بالريف. هذه التي تظل بنظري في مستويات متدنية جدا مقارنة بأوقات مضت. كان الفلاحون وما زالوا حاضرين على خط المقاومة الأول للسياسات النيوليبرالية في هذا البلد الكبير، والذي أرهقته عقود من الافقار المتعمد لملايين الفلاحين وفقراء المدن الذين أصبحوا شيئا فشيئا قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة.

أحمد وجدي

كاتب-مصر


صورة الواجهة من الأنترنت
من ملف : نضالات صغار منتجي- ات الغذاء الوجه الخفي لانتفاضات شعوب شمال أفريقيا 2011