أتت الحرب الروسية الأوكرانية على وضع يتّسم بطبعه بالتأزم وزادته أزمة على أزمة. أزمة سياسية ظهرت بوادرها منذ دفعت حركة النهضة بحكومة الفخفاخ إلى الاستقالة في جويلية 2020 إلى رفض الرئيس قيس سعيّد التحويرات الوزارية لرئيس الحكومة هشام المشيشي، هذا الذي اختاره قيس انقلب ليتحالف مع حركة النهضة، ما أدّى إلى حكومة أغلب وزرائها هم وزراء بالنيابة. هذا وصولا إلى إجراءات قيس سعيّد الاستثنائية في 25 جويلية بإقالة الحكومة ثمّ حلّ البرلمان ليمركز جميع السلطات بين يديه.
كانت الحرب فرصة لصندوق النقد الدولي لإحكام قبضته على الدولة التونسية مستغلّا ما انجرّ من ذلك من تعاظم عجز تونس التجاري وتقلّص مخزونها من العملة الصعبة.
أزمة كذلك في المؤشرات الاقتصادية بارتفاع نسب التضخم ودخول العديد من المؤسسات العمومية مرحلة من الصعوبات في توازناتها المالية. لكن أبرز مظاهر الأزمة تمثلت في التخفيض المطّرد لترقيم تونس السيادي 1 من مختلف مؤسسات الترقيم الدولية بسبب عدم تنفيذها للـ”إصلاحات”، ما أدّى إلى غلق أبواب الأسواق المالية العالمية أمام الحكومة التونسية، وكذا إلى غلق إمكانات الاقتراض من الدول “الشقيقة” ومؤسسات التمويل الدولية. وُضعت إذن سنة 2022 تحت شعار البحث المحموم على اتفاق مع صندوق النقد الدولي من أجل “إعادة ثقة الأسواق والمموّلين” في الطرف التونسي.
أتت إذا الحرب الروسية على هذا الوضع حاملة معها أزمة الحبوب بارتفاع أسعارها وشحّ المصادر، وكذا ارتفاع أسعار المحروقات وتعميقا للتضخم الحاصل منذ نهاية الجائحة. لكن الحرب لم تأت، بالنسبة لتونس، بمخلفاتها المتوقّعة من المظاهر المذكورة أعلاه ممّا يحدث في أسواق القمح والبترول العالمية فقط، بل كانت فرصة لصندوق النقد الدولي لإحكام قبضته على الدولة التونسية مستغلّا ما انجرّ من ذلك من تعاظم عجز تونس التجاري وتقلّص مخزونها من العملة الصعبة. وفرض على الدولة التونسية اعتمادا مسبقا لسياسة تقشف قاسية كي يمكّنها من قرض ينعش المؤشرات الاقتصادية ويفتح من جديد أبواب الأسواق العالمية. فكانت الحرب إذن حربين على غذاء التونسيين\ات: الحرب الروسية الأوكرانية وحرب صندوق النقد الدولي عبر مدفعية المديونية ودبابات تقشف في جميع الميادين أتت على الأخضر واليابس.
تونس ما قبل الجائحة: فلاحة موجهة للتصدير
تبلغ المساحات المزروعة في تونس ما يقارب 4 مليون و200 ألف هكتار 2، تخصص منها ما يقارب 55% للأشجار المثمرة (مليونين و300 ألف هكتار) و28% للحبوب (مليون و200 ألف هكتار). أما البقوليات والخضراوات، فهي تشْغل سوى نسبة 5% (230 ألف هكتار). تستأثر زراعة الزياتين، من بين المساحات المخصصة للأشجار المثمرة، على مليون و700 ألف هكتار 3، أي ما يقارب 73% من المساحات المخصصة للأشجار المثمرة. هذه صورة أولية عن خارطة تونس الزراعية سنة 2018. لكن يمكننا كذلك أن نقرأ هاته الأرقام في سياقها الزمني. فإن ركّزنا بالخصوص على المساحات المخصصة للحبوب، نرى انخفاضها المطّرد منذ أواسط الثمانينات حتّى السنوات الأخيرة، من معدّلات فاقت المليون و500 ألف هكتار 4 إلى معدّل مليون و260 ألف هكتارا في العشرية الأخيرة، 5 أي بانخفاض بـنسبة 16%.

هذا رغم أنّ حاجات الدولة في الحبوب زادت في نفس الفترة، ودفعتها إلى مزيد من التوريد، حيث ارتفعت الكميات المورّدة من زهاء مليون طنّ سنويا إلى مليونين و500 ألف طنّ 6، ما أدّى إلى عجز مستدام في مؤشر تغطية الحاجات من الحبوب بلغ 45% 7. ونلاحظ أيضا استقرار مساحات للبقوليات والخضروات في مستوى 230 ألف هكتار. وفي المقابل، ما فتئت الدولة تشجع الاستثمار في زراعة الزياتين والقوارص 8.
هي إذن سياسة زراعية تنزع إلى إهمال الزراعات الأساسية لغذاء التونسيين، مثل القمح مقابل توسيع الزراعات التصديرية مثل القوارص والزياتين. هذه السياسة تجد جذورها منذ الاستعمار وحتّى قبله. حيث أنّ المستعمِر الفرنسي اعتبر الأراضي الزراعية التونسية تابعة تماما له، وسخّرها لتحقيق أمنه الغذائي، وجعل منها قاعدة خلفية يحتمي فيها من الكوارث التي تُصيب أراضيه. فعلى سبيل المثال يقول الباحث هيثم صميدة القاسمي في هذا الصدد أنه <<في سنة 1932، تعززت زراعات الكروم في البلاد التونسية من أجل خمرها حتى أصبحت مساحتها تناهز 50 ألف هكتار، يتم تصدير 90% منها إلى السوق الفرنسية وذلك إثر الآفة التي أصابت الكروم الفرنسية بسبب حشرة الفليلوكسيرا. كما دفعت أزمة 1929 بإكثار إنتاج القوارص الذي تبين أنه زراعة تجارية مربحة تعوّض أزمة الإفراط في إنتاج الحبوب في العالم، ما تسبب فيما يطلق عليه بـ “الثورة القوارصية” التي تعززت بنقص الإنتاج الإسباني بسبب الحرب الأهلية وتعطيل الصادرات الإيطالية كعقوبة لغزوها لأثيوبيا. من جهة أخرى وعلى مستوى إنتاج الحبوب، لم يعرف الفلاّحون التونسيون سوى زراعة القمح الصلب والشعير إلى أن أدخلت السلطات الاستعمارية الفرنسية القمح اللين في الإنتاج الزراعي المتعلق بالحبوب والذي كان موجها بالأساس للتصدير إلى بلاد “الباقات”>>9
تعزّزت هذه التبعية خصوصا في فترة “الانفتاح” التي عرفتها البلاد التونسية انطلاقا من السبعينات، وكان من أبرز مظاهرها مشروع مياه الشمال 10 المنجز نهاية السبعينات من أجل تحويل مياه الشمال نحو منطقة الوطن القبلي التي تخصصت في زراعات القوارص. وتستهلك القوارص اليوم، حسب السنوات، نسبا تتراوح بين 22% و33% من مجموع مخزون السدود التونسية 11. وقد تواصل هذا الانفتاح بعد دخول تونس برنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي نهاية الثمانينات لدفع الدولة إلى التراجع عن دورها التعديلي في القطاع الفلاحي لتترك منطق السوق يسيطر مثلا على الأعلاف عبر نزع صلاحية توريد الذرة اللازمة لصناعتها من ديوان الحبوب (وهي مؤسسة عمومية) وإسنادها حصريا إلى شركة خاصة (قرطاج للحبوب) في التسعينات. كذلك تمّت خوصصة معظم حلقات التجميع والتوزيع في مجال الحبوب بعد أن كانت من مهام ديوان الحبوب الحصرية 12 في بداية سنوات 2000.
يمكن إذن أن نلخّص وضع السياسات الزراعية في تونس قبل الجائحة في كونها مقتصرة على نهج الأمن الغذائي، أي التعويل على السوق العالمية في توفير الغذاء مقابل تشجيع الزراعات الموجهة للتصدير. وفي هذا استنزاف للثروة المائية وتقليص مساحات الزراعات الموجهة مباشرة إلى تغذية السكان، وكذلك قضاء على التربة بانتهاج نمط الزراعات الأحادية وما يرافقها من استعمال الأسمدة الكيميائية وتعريض تلك الزراعات إلى شتّى الأمراض ممّا يزيد في استعمال الأدوية.
ماذا عن الحبوب؟
الحبوب هي المكوّن الأساسي لتغذية التونسيين\ات، حيث تمثل 49% من الحريرات و50% من البروتينات و42% من الحديد و19% من الكالسيوم من جملة تغذيتهم.ن 13. أدت سياسة الدولة المعتمدة على تحقيق الأمن الغذائي عبر آليات السوق إلى تهميش زراعتها حتّى وصلنا مرحلة توريد 55% من حاجاتنا -أي أننا نورّد أكثر ممّا ننتج- بينما كان معدّل التوريد بين 1962 و1966 مثلا يبلغ ثلث الكميات المنتجة محليا 14 (هذا مع الإشارة إلى أن الدولة التونسية كانت تصدّر بعض الكميات من القمح الصلب في تلك الفترة لتستبدلها بالقمح اللين الأقل سعرا). إلاّ أن الحبوب بقيت الزراعة الوحيدة التي يمكن للدولة أن تتدخل فيها بعض الشيء. إذ تعتمد الدولة التونسية لتوفير الحبوب على الإنتاج المحلّي والتوريد. ويمثّل ديوان الحبوب -وهو مؤسسة عمومية- ذراع الدولة في هذا المجال. فهو المكلّف من ناحية بشراء الحبوب من المنتجين بأسعار يتمّ تحديدها منذ بداية موسم زراعة الحبوب، ومن ناحية أخرى بتوريد الحبوب من السوق العالمية. وتكون أسعار شراء الديوان الحبوب من السوق العالمية أو من المنتجين المحليين أرفع من أسعار البيع في السوق الداخلية. ويقوم هنا صندوق التعويض 15 بتسديد فارق السعرين إلى ديوان الحبوب. إلاّ أن آلية التعويض هذه تحوّلت مع مرور الزمن، وخاصّة مع حلول الإصلاح الهيكلي، من أداة تشجيع المنتجين عبر ضمان هامش ربح محترم إلى أداة ضغط على الأسعار، وصار التعاطي مع موضوع التعويض يستند فقط إلى معيار الكلفة المالية. وصار التعاطي مع المنتجين المحليين يخضع فقط لمنطق الضغط على الكلفة، وهو ما يُترجم على أرض الواقع بالضغط على أسعار الشراء من السوق المحلية 16.
لكن التدني النسبي لأسعار شراء الدولة الحبوب من المنتجين المحليين يدفعهم إلى العزوف عن المخاطرة بزرع مساحات كبرى، هذا إلى جانب عجزهم عن تغطية تكاليفهم وتجديد تجهيزاتهم المتقادمة 17. الأسعار التي تحدّدها الدولة مهمّة بالفعل في تحديد صابة الحبوب الممكنة، إذ تذكر دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة 18 أنّ ارتفاع سعر الشراء من المنتجين المحليين سنة 2002 مكّن من رفع الانتاجية من معدلات تتراوح بين 12 و15 قنطار للهكتار الواحد إلى معدلات بين 15 و20 قنطارا للهكتار الواحد، و تصل الانتاجية عدة مرات إلى مستوى 25 قنطارا في الهكتار. أدت كلّ هاته السياسات إلى خضوع متزايد للسوق العالمية لتوفير الحبوب، ومن جملة مصادر الدولة التونسية نجد أساسا روسيا وخصوصا أوكرانيا، أيّ المصدّرين الأوّل والخامس للحبوب عالميا. أمّن، مثلا، هاذان البلدان بين 2017 و2019 أكثر من نصف وارداتنا من الحبوب 19. بطبيعة الحال، سيؤثر قيام الحرب بين هاذين البلدين مباشرة على تأمين حاجاتنا من الحبوب، لكونهما المصدرين الأساسيين للحبوب بالنسبة لنا، لكن كذلك، وبوجه خاص، بوصفهما يوفّران ثلث الصادرات العالمية للحبوب، ما يخلق أزمة عرض على صعيد عالمي. لكن سنرى أن تأثير الحرب على تونس لن يقتصر على الحبوب، بل سيشمل كذلك عدّة موادّ غذائية.
تأثير الحرب على تونس
إن بحثنا في جذور هشاشة الدولة التونسية أمام الأزمات العالمية، فعلينا أن نعود إلى بداية السبعينات حيث تمّ التخلي عمّا سمّي بالتجربة الاشتراكية، وسياسة النموّ عبر إحلال الواردات التي نهجتها الدولة في الستينات من أجل المرور إلى ما سمّي بسياسة “الانفتاح” بقيادة وزير بورقيبة الليبرالي “الهادي نويرة”. وانخرطت حينها الدولة التونسية في سياسة “النموّ عبر الصادرات” المعتمدة على نظرية الميزات المقارنة: على كلّ دولة في هذه المنظومة أن توجّه جهازها الإنتاجي نحو المنتوجات الأقل كلفة لتحقق بها اكتفاءها الذاتي، وتصدّر الفائض مقابل توريد ما ينقصها من المنتوجات التي تمثل الميزات المقارنة لبلدان أخرى. والمسلّمة الكبرى هنا هي أنّ السوق سيعدّل نفسه بنفسه ويحقق السعادة للجميع. وبفعل انخراط الدولة التونسية بعمق في هذه المنظومة، أثرت الحرب بشدّة على وضع البلد الاقتصادي العامّ. فقد سرعت ارتفاع أسعار الموادّ الأولية، وخاصة البترول، ما أدى إلى مزيد تأزيم حالة التضخم الحاصلة على صعيد عالمي. وعمّقت هذه الحالة عجز تونس التجاري. فقد ارتفع حتى متم شهر أغسطس 2022 إلى مستوى 16899 مليون دينار، أي بارتفاع بـنسبة 61 % 20 ومن أهم المساهمين فيه العجز الطاقي الذي بلغ حتى متم يوليو 2022 مبلغ 6035 مليون دينار21، وارتفع بنسبة 109% من سنة لأخرى، وصار يمثل 35% من العجز التجاري. لكن كذلك وزنت في العجز التجاري واردات الحبوب التي بلغت إلى متم أغسطس 2022 مبلغ 2883 مليون دينار 22، ما يمثل 17% من العجز. وأدى هذا العجز المتسارع بدوره إلى تقلّص مخزون العملة الصعبة للدولة التونسية إلى 106 أيّام من التوريد في أكتوبر 2022 مقابل 131 يوم توريد في نفس الفترة من السنة الماضية 23.
وهنا مربط الفرس. فتقلّص مخزون العملة الصعبة يضع الدولة أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما في ظلّ المنطق السائد لدى الحكومات المتعاقبة. إمّا تقليص التوريد، وهذا غير ممكن نظرا لارتباط الدولة التونسية باتفاقيات التبادل الحرّ مع بلدان الشمال وتعريضها بذلك إلى العقوبات. كذلك لا فائدة من محاولات زيادة الصادرات نظرا لأن تونس، كسائر بلدان الجنوب، تعيش عجزا هيكليا في ميزانها التجاري، وهو من مخلّفات السياسات الاستعمارية المفروضة على بلدان الجنوب منذ القرن التاسع عشر والتي لم تنته بعد الاستقلال بل تمّت مأسستها وتقنينها تحت رعاية مؤسسات بريتون وودز 24. وإمّا اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض كحل ثان. هذا لأنّ جميع المموّلين الدوليّين امتنعوا عن إقراض الدولة التونسية بما أنها امتنعت في العشرية السابقة عن القيام بما يسمّى “الإصلاحات الموجعة”. فتكرّر تقهقر تونس في التصنيف الائتماني إلى أن وصل أدناه لدى معظم مؤسسات التصنيف. وكانت أزمة كوفيد-19 وبعدها الحرب بين روسيا وأوكرانيا الفرصة المناسبة لليّ صندوق النقد الدولي لذراع الدولة التونسية. فقام بالضغط على الدولة التونسية منذ تنصيب حكومة نجلاء بودن، باقتناع أنها حكومة تحظى بغطاء سياسي قويّ يتيح تنفيذ جميع “الإصلاحات الموجعة” المطلوبة.
اشترط الصندوق مباشرة الإصلاحات قبل تمكين تونس من القرض المنشود. و امتثلت حكومة بودن، وبدأ الضغط على النفقات العمومية، وكذلك على المؤسسات العمومية، وتمّ الامتناع عن الانتداب. لكن بالخصوص بدأ الضغط على نفقات صندوق التعويض كمقدّمة لإلغائه، وتعويضه بمنظومة تحويلات مباشرة نحو العائلات المعوزة. ويبرز هذا الضغط في أرقام تنفيذ الميزانية للسداسي الأول لسنة 2022 25. قد تمّ تقليص مبلغ العجز في الميزانية بنسبة 75%. ورغم أن الحكومة خصّصت مبلغ 7262 مليون دينار كمصاريف دعم لسنة 2022، فإنّها لم تنجز منها سوى 2111 مليون دينار إلى متم يونيو 2022 (أي 29%). لكننا نلحظ التقليص الرهيب في مبالغ الدعم المخصصة للموادّ الأساسية، فقد تمّ تخصيص مبلغ 3771 مليون دينار في هذه الخانة، ولم يُصرف منها سوى 400 مليون دينار (10,6%) مقابل 850 مليون دينار في نفس المدّة لسنة 2021، هذا رغم الارتفاع المشطّ لأسعار الموادّ الأساسية الذي شهدناه منذ السنة الماضية. كل هذا رغم ارتفاع مداخيل الدولة التونسية من 15818 مليون دينار في السداسي الأول لسنة 2021 إلى 19323 مليون دينار في نفس الفترة سنة 2022 26 .
سياسة التقشف هذه في مصاريف الدعم أدّت إلى عديد الأضرار. أوّلها صابة الحبوب الضئيلة التي تمّ جمعها في الأراضي التونسية. كما أشرنا إلى ذلك في البداية، فإن سعر الشراء الذي تحدّده الدولة له تأثير مباشر على مردودية الأراضي لكن كذلك على المساحات المزروعة. فرغم الرفع النسبي لأسعار شراء الحبوب المحلية 27 فإنّه بقي منخفضا بصفة ملحوظة أمام الأسعار العالمية. فقد تمّ تحديد سعر شراء القنطار من القمح الصلب المحلي بـ130 دينار مقابل معدلات بـ190 دينار في الأسواق العالمية 28 منذ بداية السنة، والقنطار من القمح اللين بـ100 دينار مقابل معدّلات تتجاوز الـ130 دينار في الأسواق العالمية منذ أبريل 2022. لم تشجع هذه الأسعار الفلاحين\ات على زراعة الحبوب في هذا الموسم و خاصّة الصغار منهم\ن، حيث تمثل المستغلاّت الفلاحية ذات المساحة الأقل من 20 هكتار 87% من جملة مُستغلات الحبوب 29. حيث لا تسمح الأسعار المنخفضة بضمان هامش ربح كاف، ولا باقتناء تجهيزات جديدة، ولا حتى بصيانة تلك الموجودة 30. كما يستحوذ التهريب، بفعل أسعار الشراء المنخفضة مقارنة بالأسعار العالمية، على نسبة هامة من صابة الحبوب قُدّرت بـ15% من المحصول في جهة القيروان، مثلا 31.
من ناحية أخرى، يؤثر التقشف في مصاريف الدعم على ميزانيات المؤسسات العمومية المكلفة بالتوريد، مثل ديوان الحبوب وديوان الزيت وديوان التجارة. فصار شائعا أن تبقى بواخر محمّلة بالحبوب رابضة قرب السواحل التونسية في انتظار خلاصها من طرف ديوان الحبوب 32. وأدّت كذلك سياسة التقشف إلى أزمة مشابهة في ديوان الزيت، سببت نقصانه في الأسواق، حيث تقلّصت الكميات المورّدة من الزيت النباتي (المدعّم والموجه إذن إلى الفئات الشعبية) من 162 ألف طن في الستة أشهر الأولى من سنة 2019 إلى 139 ألف طن في نفس الفترة من سنة 2022 33. وكان كذلك لديوان التجارة نصيبه من الأزمات، حيث شهدت الدولة التونسية نقصا فادحا في مادّتي السكر والقهوة خلال الفترة الصيفية.
لم تقم الدولة التونسية، والحالة هذه، بالتصدّي لمخلفات الحرب، بل كانت طرفا رئيسا في تعميق الأزمة في الداخل. فما عدا تدخّلها لتحديد أسعار العلف ضدّ بارونات توريد هاته المادة، فإنّ ما قامت به هي زيادة أزمة اقتصادية على الأزمة الغذائية المحتملة. فقد تسببت سياسة التقشف هذه في غلق بعض مصانع تعليب الزيت النباتي 34 وتأزيم وضعيات المقاهي 35، لكن الأضرار وصلت حتى للمخابز حيث أن الدولة صارت تمتنع عن دفع مستحقات الدعم لها وهو ما يضعها في وضعيات حرجة 36.
السياسات التي يجب تنفيذها لبلوغ الغذاء لجميع الشرائح الاجتماعية
إن دلّ كل ما سبق على شيء، فهو أنه لا يمكن للدولة التونسية، بطبيعة حكوماتها الحالية، إلاّ أن تواصل نهج السياسات الزراعية الاستعمارية الاستخراجية. فهاته الحكومات مرتبطة عضويا وعقائديا بمصالح الامبريالية، ولا يمكن أن تغيّر قيد أنملة في ذلك النهج. هذه السياسات ستواصل وضع غذاء التونسيين\ات ومصائرهم من بين أيادي السوق العالمية، ما سيؤدّي إلى تفاقم الأزمات الغذائية، ويسرِّع تواترها على منوال الأزمات العالمية. لكن هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى ما بوسع هاته الحكومات فعله بصفة عاجلة وآجلة للحدّ من هاته الأزمات في مرحلة أولى ثمّ القطع مع أسبابها في مرحلة لاحقة، ولا نيأس من قول الحقيقة فهي في حدّ ذاتها فعل ثوري.
ما تمّ الحديث عنه أعلاه يرجع أسباب الوضع الحالي إلى موضوعين رئيسيّين: الأوّل هو ارتهان الأراضي الفلاحية التونسية إلى منوال زراعي موجه أساسا للتصدير، ورأينا ذلك مثلا من خلال طبيعة المزروعات، وكذا كمية ما يُرصد لها من موارد مائية. والثاني تورّط الدولة التونسية في سياسات التقشف ومنطق الإصلاحات. ولنتفّق هنا أوّلا حول ماهيّة هذه السياسات. هي في جوهرها 37 سياسة انكماش مالي في خفض الائتمان على جميع مكوّنات الاقتصاد، لكن تطبّق أساسا على القطاع الحكومي لكي لا تنازع القطاع الخاص(ومن هنا تأتي بروباغندا الليبراليين حول العجز في الميزانية)، وتنخفض موارد الدولة وقدرتها على الاستثمار والتوسّع المالي 38. وهي كذلك سياسات تنزع دائما نحو ترك يد السوق الخفية تلعب دورها عبر ظهور حقيقة الأسعار، ومن هنا يأتي الضغط الدائم من أجل إلغاء “الدعم”. للخروج من الأزمتين -الآنية والهيكلية-، علينا إذن أن نضع الأسباب الأصلية لهما نصب أعيننا.
وجب إسقاط ديون جميع صغار الفلاحين\ات لأنّهم\ت عماد السيادة الغذائية المنشودة. يمكن هنا أن يتدخل طرف آخر يغيب عنا أحيانا وهو البنك المركزي
أوّلا، لا يمكن للدولة التونسية إتاحة الغذاء اللازم للتونسيين\ات، وفي نفس الوقت مواصلة سياسة التقشف، فهاذان هدفان متناقضان تماما 39. سياسة التقشف ليست إذن مرتبطة بمداخيل الدولة بل هي مشروع إيديولوجي يدفع نحو تخلّي الدولة عن دورها الراعي للمجتمع ليحلّ محلّها السوق. وهذا كلّه من أجل عيون صندوق النقد الدولي، “مُنقذ” الحكومات بقروضه في جميع الأزمات. يجب إذن الدفاع عن ديمومة صندوق التعويض بكل شراسة، فهو العنصر الأساسي لأي سياسة زراعية تعتمدها الدولة. وأوّل إجراء يجب القيام به بالاستناد إلى صندوق التعويض هو رفع سعر شراء الحبوب المحلية ليوازي الأسعار العالمية، لكي يتشجع الفلاحون\ات على زراعة أوسع مساحات ممكنة، ويتمكّنوا من القيام بأشغال صيانة تجهيزاتهم. وفي نفس الوقت ستنتفي بذلك شروط وجود التهريب الحاصل في مجال الحبوب.
ثانيا وجب إسقاط ديون جميع صغار الفلاحين\ات لأنّهم\ت عماد السيادة الغذائية المنشودة. يمكن هنا أن يتدخل طرف آخر يغيب عنا أحيانا وهو البنك المركزي: بإمكان البنك المركزي شراء جميع سندات دين الفلاحين\ات دون أي تأثير لا على موازنته -بما أنّه صاحب السيادة في خلق العملة- ولا على نسب التضخم مثلما يخشى ذلك الاقتصاديون النقداويّون بما أن التضخم في غالبه مستورد والدولة اليوم تشهد شحّا في السيولة لا العكس 40. هذا غير ممكن اليوم في ظلّ منظومة قانونية تعطي للبنك المركزي استقلالية كاملة عن الدولة لكن خضوعا تامّا لمصالح البنوك ومؤسسات التمويل الدولية. والبنك المركزي هو المسؤول الأول على تنفيذ سياسة الانكماش المالي بمنع إسداء القروض. وجب إذا استعادة السيادة النقدية -أي السيادة على البنك المركزي- وتحريرها من المصالح المالية. في نفس السياق، يمكن للبنك المركزي أن يفرض على البنوك إسداء قروض ميسّرة لصغار الفلاحين\ات دون أن تكون لهم/ن الضمانات المطلوبة من البيروقراطية البنكية: ضمانة البنك المركزي تكفي.
وجب كذلك إسقاط ديون مختلف المؤسسات العمومية المكلّفة بتوفير الغذاء لجميع التونسيين\ات، وهي ديوان الحبوب وديوان الزيت وديوان التجارة، لتتمكن بصفة عاجلة من القيام بمهامّها في توفير الغذاء عبر السوق العالمية. لا مناص من التوريد في المدى القصير في ظلّ الحالة القائمة اليوم المترتبة عن السياسات الزراعية السابقة. هذا الإجراء أساسي ويجب أن يقوم به كذلك البنك المركزي. فأول أسباب الأزمة المالية لهاته الدواوين هو امتناع الدولة عن تسديد مستحقات الدعم، لكن سببا آخر لا يستهان به هو ما نتج عن سياسات البنك المركزي في انزلاق قيمة الدينار، وهو ما فاقم مبالغ ديون تلك الدواوين بالعملة الصعبة.
هذا فيما يخص السياسات العاجلة. لكن لا يمكن، بطبيعة الحال، أن تكون الحلول مالية\نقدية بحتة. فالسبب الأساسي لما نعيشه اليوم هو السياسات الزراعية التابعة التي توخّتها الدولة. سياسات وضعت التصدير في أعلى سلّم الأولويات وجعلت السوق المنطق السائد. فلا مجال لأن يتواصل هذا النمط الاستخراجي الذي تستحوذ فيه القوارص على ثلث الموارد المائية السطحية بينما تبقى صابة الحبوب رهينة الأمطار. هذا النمط الذي تنتشر فيه الزراعة المكثفة للنخيل المنتج لدقلة النور -المعدّة للتصدير- الذي يتسبب في استنزاف ثروة الواحات المائية الباطنية إلى جانب القضاء على الأنماط الفلاحية التقليدية. من ناحية أخرى، لا مجال لأن تبقى السوق هي المتحكم في غذائنا مثلما يحدث اليوم في قطاع الأعلاف حيث يتحكم بعض البارونات في مصائر مربّي الماشية ودون حتى التفكير في سبل الإنتاج المحلي لأنواع من الأعلاف تتناسب مع طبيعة تربة تونس ومناخها. أخيرا، وبشكل رئيس: يجب ألاَّ تعود الأرض للمستثمرين الذين يعيثون فيها فسادا 41 ويستغلونها لأجل منتجات تصديرية على حساب الثروة المائية والتوازن البيئي وغذاء الناس، بل يجب أن تعود الأرض للفلاحين\ات الصغار.
كلّها إجراءات تستوجب إرادة سياسية من أجل القطع مع منظومة التقشف والإصلاحات واعتبار الغذاء سلعة مثل جميع السلع. كلّها إذن سياسات تستوجب القطع مع النظام الاستعماري الذي ترزح تحته بلدان الجنوب.
وليد بسباس
- المقال أعلاه مأخوذ من الملف الذي اصدرته شبكة سيادة حول: الحرب الروسية الأوكرانية وأثرها على الغذاء في بلدان شمال أفريقيا
- يمكنكم الاطلاع على الملف كاملا وتحميله من الرابط
- أنظر.ي مثلا: Notation en baisse de la Tunisie, qu’elle est la cause? – L’économiste maghrébin – Mars 2022.
- الكتاب السنوي للإحصاءات الفلاحية (2019)
- غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا. مجموعة العمل من أجل السيادة الغذائية، جوان 2019.
- Analyse de la filière céréalière en Tunisie et identification des principaux points de dysfonctionnement à l’origine des pertes – Publications FAO.
- الكتاب السنوي للإحصاءات الفلاحية (2019)
- Analyse de la filière céréalière…
- نفس المرجع.
- غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا…
- جذور سياسات التبعية: في تاريخية امتصاص الفائض الزراعي. هيثم صميدة القاسمي، موقع إنحياز. (من ملفّ <<قمحي لا ينقسم>>)
- أو “المشروع المندمج بسيدي سالم” (غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا…)
- تقدّر كمية المياه الموجهة للقوارص ب316 مليون متر مكعّب بينما يعادل مخزون السدود سنة 2017 كمية 944 مليون متر مكعب مقابل 1400 مليون متر مكعب في السنوات الثلاثة السابقة (غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا…)
- تونس: هل تصبح وفرة الحبوب لعنة؟ ندى الطريقي، موقع بر الأمان، جويلية 2019.
- Analyse de la filière céréalière…
- معدّل الكميات المورّدة 2,097 مليون قنطار ومعدّل الكميات المنتجة 6,176 مليون قنطار- تقرير البنك المركزي لسنة 1966.
- أي ما اصطلح بتسميته “صندوق الدعم”
- من التعويض إلى الدعم: سيرورة القضاء على السياسة الغذائية الوطنية، وليد بسباس، موقع إنحياز، مارس 2022.
- Sécurité alimentaire en Tunisie: “Si l’état n’agit pas, il n’y aura plus de blé tunisien”, France 24.
- Analyse de la filière céréalière…
- بمعدّل 42% لأكرانيا و8,9% لروسيا. أنظر.ي: كيف تهدد الحرب بين روسيا و أكرانيا الأمن الغذائي التونسي، آمنة المرناقي، موقع إنكفاضة.
- أرقام المعهد الوطني للإحصاء
- Tunisie: Le déficit commercial frôle les 17 milliards de dinars à fin Juillet 2022. L’écomiste maghrébin.
- أرقام المعهد الوطني للإحصاء
- أرقام البنك المركزي
- Plunder in the post-colonial era: Quantifying drain from the Global South through unequal exchange, 1960-2018. Jason Hickel, Dylan Sullivan & Huzaifa Zoomkawala.
- نتائج وقتية لتنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى جوان 2022. وزارة المالية التونسية.
- نفس المصدر
- أرقام ديوان الحبوب
- الميزان التجاري الغذائي إلى موفى أوت 2022. وزارة الفلاحة.
- Analyse de la filière céréalière…
- Sécurité alimentaire en Tunisie: “Si l’état n’agit pas, il n’y aura plus de blé tunisien”, France 24.
- نفس المصدر.
- بشير الكثيري: تونس لديها مخزون من الحبوب ما يكفي لشهر أفريل. راديو آكسبراس فم.
- في الأمن الغذائي أولويات: تقلص المشتريات من السلع الغذائية والتقشف يكشف عن نفسه. شراز الرحالي، جريدة المغرب.
- Pénuries d’huile végétale: à cause des impayés de l’état, des usines sont en péril. Business News.
- Pénuries en Tunisie: cafetiers en équilibre précaire, Manel Derbali, Nawaat.org.
- أصحاب المخابز يطالبون بصرف مستحقاتهم، جريدة الشروق، 24 جوان 2022.
- صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة: الأسس النظرية للإصلاح الهيكلي، وليد بسباس، موقع إنحياز، ماي 2021.
- “ففي الاقتصاد الرأسمالي، ليست الحركة الاقتصادية هي التي تخلق الحركة المالية، بل الحركة المالية هي التي تضع الأرضية لتَوسع السوق وتستبق الحركة الاقتصادية لتفتح المجال لها. زيادة عرض النقد من خلال عملية الائتمان يعني تحفيز الحركة الاقتصادية. فأنت تقترض حين تريد أن تبدأ مشروعًا، أي أن تحصل على الائتمان أولًا ثم تشغّل المال. فالرقعة النقدية هي التي تخلق الأرضية الأساسية للتوسع الاقتصادي. البنوك عمليًا – بالامتيازات التي تكتسبها من البنك المركزي ومن خلال التجزئة المصرفية – قادرة على خلق النقد من لا شيء.” علي القادري في “المؤسسات المالية الدولية، والمديونية، والحرب: مقابلة مع علي القادري”، موقع حبر، ديسمبر 2019.
- الغذاء والسوق: في ضرورة تحرير القمح من الاقتصاد الحر. محمد سليم بن يوسف، موقع إنحياز.
- نحو السيادة الغذائية: أيّة حلول آنية وأيّ مكان للسيادة النقدية. وليد بسباس، موقع إنحياز.
- أنظر.ي أمثلة ضيعات الاعتزاز 2 و3 في منزل بوزيان (غذاؤنا، فلاحتنا، سيادتنا…)
