«الطبقة والتغير الفلاحي»: رحلة فهم الاقتصاد الفلاحي في عصر النيوليبرالية



أُطلقت الطبعة العربية من سلسلة «كتب صغيرة» الصادرة عن «مبادرات في الدراسات الفلاحية النقدية» (إيكاس – ICAS) وهو إنجاز مفصلي، حيث تلعب «الدراسات الفلاحية النقدية» وغيرها من المبادرات المماثلة دورًا هامًا في كسر احتكار المعرفة التي تهيمن عليها الدول والجامعات والمعاهد العلمية ذات التوجه النيوليبرالي. كما تقدم السلسلة إسهام مستقل في الإنتاج الديمقراطي للمعرفة وهي مهمة تتطلب تعاون الباحثين والنشطاء الفلاحيين والصحفيين. ويعد ذلك مهمًا مع الانقطاع الهائل بين الواقع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمعرفة العالمية المهيمنة التي تُعمم وتستخدم عن المنطقة

بدأت السلسلة عربيًا بكتاب «الطبقة والتغير الفلاحي» لهنري برنستين الصادر مؤخرًا عن دار المرايا في مصر، بترجمة عمرو خيري، ومراجعة علي أموزاي. يجمع الكتاب بين كلٍ من النقاش النظري والجدل السياسي مع أمثلة تجريبية من خلفيات محلية مختلفة.

تضم النسخة العربية من الكتاب مقدمةً وثمانية فصول، ويستعرض كل فصل قضايا خاصة بالتشكل الطبقي للفلاحين، وتحولات الزراعة وعلاقاتها الاجتماعية، وواقع الزراعة اليوم ومستقبلها، مع تقديم تعميمات نظرية ملخصة. ومع تغيير سيرورة العولمة النيوليبرالية للعالم الزراعي بشكل عميق، يقدم الكتاب طرق جديدة في فهم الشروط البنيوية والمؤسسية للزراعة الحديثة، وتحليل معمق للاقتصاد السياسي الفلاحي. 

"الطبقة والتغير الفلاحي" هنري برنستين

يقدم الكتاب محاولة تمييز منهجية بين الفلاحين والمزارعين، إذ إن العمل في الفلاحة ليس على شكل واحد، فإن هذا يستدعي تمييزًا تحليلًيا بين مصطلحات «الفلاح» و«المزارع» المتداولة في الفضاء العام، فمصطح «الفلاح» يشير عادةً إلى الزراعة العائلية القائمة على إمداد أفراد الأسرة بغذائهم، مع سمات مفترضة مثل التضامن والإخاء القروي والالتزام بقيم العائلة والقرابة والانتماء للقرية. أما مصطلح «المزارع» فيطلق على صغار منتجي السلع الزراعية بغرض بيعها في السوق. وبالطبع في الحياة الواقعية ليس هناك تمييز حاد بين النوعين من المنتجين الريفيين، إذ مع التطور الرأسمالي، أصبح على الفلاحين بيع جزء من إنتاجهم من أجل تدبير باقي أمور معيشتهم، وبالتالي الاندماج في السوق بشكل أو بآخر.

هنا، تنبع أهمية الكتاب، حيث إنه يمنحنا الأدوات اللازمة لفهم واحدة من أشد الظواهر تعقيدًا في حياتنا المعاصرة وهي ظاهرة الفقر الريفي، خصوصًا أن فقراء الريف، وفقًا للمؤلف، يمثلون ثلاثة أرباع فقراء العالم، ومن ثمّ يصبح تحدي إنهاء الفقر، وهو قضية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، مرتبطًا بمقاومة الريفيين أنفسهم لنظام ينتج ويعيد إنتاج ظروف فقرهم باستمرار. كما يساعدنا الكتاب على تحسين فهمنا للصلات المعقدة بين الفقر الريفي وسياقه العام، عبر رؤية تحليلية لتاريخ الفقر الريفي، وتشكل الطبقات الفلاحية وتحولاتها، وعلاقتها بالاستعمار والدول الوطنية، أو باختصار«الاقتصاد السياسي الفلاحي».

الاقتصاد السياسي الفلاحي هو البحث في العلاقات الاجتماعية بين أطراف العملية الإنتاجية في الريف: المُزارع، وصاحب الأرض، والسلطة، وبنوك التسليف الزراعي، وبين كل هؤلاء ومدخلات الإنتاج: الأرض وملكيتها، والآلات، البذور والتقاوي، ومخرجاته: التسويق والتوزيع، والنقل.

لكن لماذا علينا أن نهتم بالاقتصاد السياسي الفلاحي ونحن نعيش في ثورة المعلومات وتجاوزنا الثورة الصناعية نفسها؟ يعد الاهتمام بالاقتصاد السياسي الفلاحي هامشًا على أطراف موج الحياة اليومية، رغم أنه الأولى بالاهتمام والتركيز والسجال، وذلك لسبب موضوعي يتعلق بأنّ نحو 60% من السكان النشطين اقتصاديًا في العالم يعملون في الفلاحة، والغالبية العظمى منهم من سكان العالم الثالث، وبالتالي فإن مجالًا اقتصاديًا واجتماعيًا يضم الكتلة الكبرى من القوة المنتجة عالميًا، ليستحق من الاهتمام أكثر ممّا هو حاصل.

ولكن إنتاجية هؤلاء السكان الناشطين اقتصاديا متفاوتة بشدة، مما ينوه عن تعقيد الاقتصاد السياسي لهذا العمل. يساعدنا الكتاب على فهم الفوارق الهائلة بين القوى الاقتصادية والسياسية في عالمنا التي تجعل الإنتاج والإنتاجية أعلى بما لا يقارن في البلاد المتطورة منه بباقي مجتمعات العالم الثالث، مع أخذ التراتبية بين بلاد العالم الثالث نفسها في الاعتبار. على أساس الفارق بين وقت العمل الممنوح لإنتاج سلعة بعينها، وعلى أساس نوعية الأدوات التي يستخدمها، يكون الاختلاف بين مستوى تطور الأمم والطبقات، وبالتالي يحدث الاستغلال من قبل الأكثر تطورًا للأقل، وهذا شيء يتضح بالأمثلة.

المزارع الأمريكي مثلًا الذي يستخدم جرارًا ومعدة حصاد حديثة يمكنه إنتاج طن من الغلة مع إنفاق وقت وجهد أقل بكثير من الذي ينفقه مزارع هندي لإنتاج نفس الكمية باستخدام محراث تجره الثيران. والمزارع الهندي ينتج طنًا من الغلة مع إنفاق وقت وجهد بدني أقل مما ينفقه مزارع من إفريقيا جنوب الصحراء، يحصد زرعه بالمنجل اليدوي، وهكذا.

مع اتخاذ السَنَة كوحدة قياس زمنية، سنجد فوارق هائلة بين النماذج الثلاثة، فالمزارع الإفريقي البسيط في 2006 كان ينتج طنًا في العام، والهندي ينتج خمسة أطنان، والأمريكي ألفي طن. هذه الأرقام تعكس فجوة هائلة بين أدنى وأعلى متوسطات الإنتاجية في نظم الفلاحة في العالم. 

وبالتالي نفهم أن الاختلاف في أدوات العمل ليس مسألة تفضيلات شخصية للمزارعين، وليس مجرد تنويع ثقافي في خبرات العمل وأشكاله، على طريقة اختلاف الأزياء، بل إن هذا الاختلاف هو حصيلة تفاوتات اجتماعية أوسع من الزراعة، بما في ذلك استغلال أشكال الطاقة (القوة العضلية- طاقة حيوانات الجر- طاقة مولدة من محركات الاحتراق الداخلي)، وبما في ذلك أيضًا جودة مدخلات الأرض: البذور المحسنة، السماد الصناعي، تطور وسائل الري.

وهكذا، يمكن أن نضيف لما ذهب إليه المؤلف، أن الإنتاجية مرتبطة بالتطور التكنولوجي والابتكار، وليست مقتصرة على عدد ساعات العمل وكل هذا مرتبط بعلاقة بتراتب الأمم على أساس القوة والتطور والثروة. فمع إنتاجية عمل زراعي عالية، يمكن لأعداد أقل من المنتجين تقديم الغذاء لأعداد أكبر من الناس، وعليه السماح لهم بالتفرغ لشؤون أخرى سواء لها علاقة بالزراعة كالتصنيع أو الابتكار أو البحث، وذلك يمنح المجتمع مصادر قوة لا يمكن الاستغناء عنها.

على النقيض من ذلك، في إفريقيا وبعض أجزاء الهند، بسبب ضعف الإنتاجية الزراعية، تتعرض مستويات التغذية والصحة بشكل عام لتدهور مستمر، وبالتالي مزيد من إعادة إنتاج الفقر والجوع واللا مساواة.

والصورة التي جمع فيها المؤلف النقيضين يمكن أن نستنتج منها أن الزراعة مشروع اجتماعي وليست مجرد نشاطًا فرديًا، بما يردنا لمقولة ماركس: «إن الاقتصاد السياسي ليس التكنولوجيا» أي أن أنشطة المزارعين تدخلهم في علاقات مع غيرهم من الناس، سواء في عمليات العمل الفلاحي أو بالنسبة للأدوات والمواد التي يعملون بها، وتشمل الأرض التي يزرعونها (ملكهم أم يستأجرونها) أو تلك المراعي التي تتغذي عليها قطعانهم (ملكهم أو يرعونها بالأجر).

ما سبق يذهب بنا مع الكاتب لتحليل تقسيمات العمل الريفي وتطوراتها، وفي هذا السياق يتطرق للنقطة المحورية في هذه القصة الكبيرة: إلى منْ يذهب الفائض الناتج عن العملية الزراعية؟ هذا السؤال أساسي لفهم الاستغلال الذي لطالما خضعت له قطاعات واسعة من الفلاحين على مدار حقب تاريخية طويلة، لدرجة أن المؤلف يحاول أن يثبت أن عملية «تسليع الكفاف» أي دفع الفلاحين لبيع منتجاتهم الزراعية بدلًا من استهلاكها عائليًا، كانت دينامية مركزية في تطور الرأسمالية.

يتتبع الكتاب، الذي يقدم تعميمًا نظريًا لتوضيح مسيرة تكوين العالم الرأسمالي الحديث، وتحقيب مراحل تطوره، وبيان محطات الانقطاع والاستمرارية في السيرورات التاريخية، مسارات التحوّل من الفلاحة إلى الزراعة الرأسمالية، في العديد من النماذج التاريخية مثل انجلترا وبروسيا إلى جانب النموذج الأمريكي. وبشكل أعم، يتوسع كتاب برنستين في تحليل دور الزراعة في تشكيل وتطور الرأسمالية الحديثة، وعلاقتها بشكل الاقتصاد السياسي العالمي، وهي قضية سبق وقدمت دراسة هارييت فريدمان وفيليب ماكمايكل (الزراعة والنظام الحكومي: صعود وانحدار الزراعة الوطنية – 1989) [1] قراءة تاريخية فيها.

وهنا يصحبنا المؤلف في رحلة نظرية لاستكشاف وتحليل جذور الرأسمالية وتطورها قبل حقبة التصنيع الحديث، ومن ثمّ يركز على التاريخ الطويل للرأسمالية من أواسط القرن الخامس عشر، حيث انطلقت دورات التراكم المالي، وبدأت عملية تشكيل الدولة، انتهاءً بتغلغل الرأسمالية في الأرياف اعتمادًا على«تسليع الكفاف».

إلى جانب المناقشة الطويلة في الكتاب حول جذور الرأسمالية ومسارات تشكلها العالمية والمتنوعة والمعقدة أيضًا، يناقش المؤلف تشكُّل الاقتصاد العالمي اعتمادًا على مفاهيم يمكن وصفها بالماركسية، وفي القلب من نقاشه يُجري جردًا لمختلف مراحل الاستعمار الأوروبي من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين.

ولعل الحديث عن الاستعمار في الظرف الراهن ممل بعض الشيء، لطول استغلال الأنظمة الاستبدادية لسردية التحرر من الاستعمار في البطش بالقوى الحية في مجتمعاتها، لكن شئنا أم أبينا، كان الاستعمار العنصر المركزي في مسيرة تكوين العالم الحديث.

وفي هذا المضمار، يبحث المؤلف عن المحركات الحقيقية لهذا الاستعمار والأشكال التي اتخذها، وأنواع التغير الفلاحي التي أدى إليها وعواقب ذلك التغيير. وقد خَلُص لأن توسع أوروبا الاستعماري هو الذي أنتج التقسيمات الدولية للعمل كما هي عليه الآن، وهذا هو السبب في اقتصار أغلب بلاد العالم الثالث على الاقتصادات الزراعية المُرسملة، واختصاص الغرب بالتصنيع الذي ولَّد طلبًا هائلًا على كميات متزايدة بلا حد من السلع الزراعية الاستوائية والقطن، إلى جانب الطلب على المعادن.

والمؤلف هنا يتبنى العدسة التحليلية لنظرية التبعية [2] التي بحثت دور الاستعمار في صياغة التقسيم الدولي للعمل بشكل جعل من الدول النامية مزودًا للمواد الخام لمصانع الدول المتقدمة، وهذا التقسيم يعزز التبعية الاقتصادية للدول النامية ويضعف قدرتها على تطوير صناعاتها المحلية. صياغة تلك العلاقة تمت في معظمها عبر الاستثمارات المتزايدة منذ سبعينيات القرن التاسع عشر في القطاعات الاستخراجية بالمستعمرات (اقتصاد المزارع والتعدين) والاستثمارات في نقل المواد المستخرجة إلى الأسواق (السكك الحديدية والنقل البحري) .

الاستثمارات تلك هي التي ميزت الاستعمار الحديث عن سائر الإمبراطوريات السابقة، باعتباره الشكل الدولي المميز لرأس المال الحديث، وهو ما دفع منظر ماركسي من طراز رفيع مثل لينين إلى التشديد على أن الإمبريالية الحديثة ستستمر بعد انتهاء الاستعمار العسكري المباشر. ويبني المؤلف على استبصار لينين ملاحظة شديدة الأهمية أن الإمبريالية بصفتها اقتصادًا عالميًا رأسماليًا لا يمكنها أن تكتمل إلا بالاستقلال عن الاستعمار العسكري المباشر في آسيا وإفريقيا لإفساح المجال أمام «الإلزام الاقتصادي البليد للقوى الاقتصادية» بتعبير ماركس، كآليات اقتصادية ناعمة تحل محل الإكراه السياسي والقانوني للحكم الاستعماري الذي كان يُحفِّز المقاومات ضده بشكل مستمر كما حدث في شتى البلاد التي تعرضت لتجربة استعمار مباشر.

هنا قد تجرح بعض التفاصيل التاريخية تلك الصورة النظرية الناصعة، فبلد مثل مصر لم يكن الاستعمار هو الذي أدمج اقتصادها في السوق العالمية [3] بل كان ذلك نتيجة مباشرة لتجربة محلية قادها محمد علي بدأت منذ 1820، قبل مجيء الاحتلال الانجليزي بستة عقود على الأقل، وقبل انهمار الاستثمارات الأوروبية التي حدد المؤلف انطلاقتها عالميًا في سبعينيات القرن التاسع عشر. في تلك الفترة، حوّل محمد علي وجهة مصر التجارية من الشرق العثماني لأوروبا بعد إحكام قبضته على كامل الرقعة الزراعية وعلى الفلاحين أنفسهم، وفرض زراعة محاصيل تصديرية، واستخدام الفائض في بناء الجيش وخوض مغامراته العسكرية، وهذه التفصيلة المهمة توضح لنا دور النخب المحلية في هندسة الاقتصادات الوطنية ودمجها في الرأسمالية الحديث.

ويسلط الكتاب الضوء على بعض السُبُل التي بموجبها سعت القوى الأوروبية لإعادة هيكلة أنواع العلاقات الفلاحية المختلفة التي صادفتها في مختلف الأماكن والأوقات وبعض الآثار المقصودة وغير المقصودة لهذا العمل.تنوعت تلك السُبُل بين السلب القسري للأراضي من السكان الأصليين في الأمريكتين وخلق نظام «الهاسييندا» (المزرعة الكبيرة) التي جرى تعميمها لاحقا في أماكن أخرى في آسيا وإفريقيا، وبين الإجبار على العمل مقابل الديون.

وفي كل الأحوال تقلصت موارد وسبل العيش المتاحة لحياة الفلاحين، وتم تنظيم العمل والأراضي من أجل إنتاج صادرات زراعية لخدمة دول المركز، وكذلك جرى اصطفاء طبقة قوية من المُلّاك تكون بمثابة حليفًا سياسيًا يدير العملية الإنتاجية ويوجهها لصالح حلفائه في الغرب. 

وهذا هو الإرث الباقي للتجربة الاستعمارية، حيث المجتمعات التي شهدت تكدُّسا لرأس المال الزراعي يسودها الزارعة التصديرية التي تطيح بقدرة المجتمعات على ممارسة سيادتها على غذائها، من أجل مصالح فئة قليلة من أصحاب الملكيات الكبيرة.

ضمن النقاط الهامة التي يركز عليها الكتاب الربط بين أنماط التغير الفلاحي في الفترة الاستعمارية المتأخرة ومرحلة الاستقلال السياسي لدول العالم الثالث، حيث كان نمو الرأسمالية «غير مكتمل» في المستعمرات وقت استقلالها، ومن ثم هدفت استراتيجيات النمو الاقتصادي على أيدي الأنظمة العسكرية التي أعقبت الاستعمار لتمديد وتعميق عملية النمو الرأسمالي الذي بدأه الاستعمار.

في ذلك السياق الذي التزمت فيه أنظمة الاستقلال بـ«التنمية الوطنية»، كانت البلاد أكثر تحولًا للصناعة (أمريكا اللاتينية- الهند- مصر) ووُضعت عمليات تحديث الزراعة كعنصر من عناصر التفكير في «التنمية الوطنية» بعد الصناعة بالطبع. وكان منح الأولوية للتصنيع يعني استبدال إنتاج الغلال محليًا بواردات القمح الأمريكية الرخيصة، في ظل الفوائض الغذائية التي استعملتها الولايات المتحدة كمعونات غذائية في أوروبا بعد الحرب وكسلاح سياسي في بقية العالم.

في مصر مثلًا كان المحصول الأساسي في الستينيات هو القطن بهدف التصدير [4] رغم احتياج السكان إلى القمح، وهذا يوضح لنا أمرين: الأول استمرارية البنية الأساسية للاقتصاد السياسي كما هي منذ العصر الاستعماري. والثاني أن عملية نزع القيمة (نهب ثمرة عمل أهل الريف) استمرت لكن بدلًا من أن تستولي عليها بنوك التسليف الاستعمارية، بدأت الدولة نفسها في الاستيلاء عليها عن طريق سياسة التسعير الجبري للمحاصيل الزراعية [5]، حيث كان الفارق بين السعر في السوق والسعر الرسمي يتحمله الفلاحون الفقراء لتمويل المشروع الصناعي الذي تستفيد منه الطبقة الوسطى المدينية.

وفي المحصلة، كان جُلّ برامج التحديث الزراعي تتشارك في نمط واحد ألا وهو الثورة الخضراء: التوسع في استخدام الأسمدة، والإرشاد الزراعي، وتقديم بذور عالية الإنتاجية، وبرامج الائتمان والتسعير الجبري، وأسفر كل ذلك عن تعميق العلاقات السلعية في الريف، وتقليل هوامش«الفلاحة»، ما مهد الطريق لتسيد الشركات الكبرى للمشهد الزراعي.

يتتبع المؤلف أيضا صعود وازدهار الشركات الزراعية الكبرى العابرة للحدود، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وسيطرتها على إنتاج الأغذية وتجهيزها وبيعها، وتنظيمها لظروف الإنتاج والاستهلاك بما يسمح لها بتخطيط الاستثمار، وتدبير المواد الزراعية والتسويق، فأسفر ذلك عن تحوُّل عالمي نحو التنظيم الشركاتي للاقتصاد الغذائي الدولي.

وكان لجوء معظم دول العالم لتحرير التجارة، بما فيها السلع الزراعية، وإلغاء دعم صغار المزارعين في دول الجنوب، بموجب سياسات التقشف التي فرضها صندوق النقد والبنك الدوليين، السبب في تمكُّن تلك الشركات من تسيّد المشهد الغذائي العالمي. هذا السياق النيوليبرالي سمح لتلك الشركات بفرض التقنيات التنظيمية الجديدة على امتداد سلاسل السلع الغذائية، من إنتاج السلع وتجهيزها وتصنيعها وصولًا إلى التوزيع عبر سلاسل التجزئة، وكل ذلك أسفر عن تقييد اختيارات المزارعين والمستهلكين.

وتمكنت تلك الشركات من بسط نفوذها عالميًا من خلال الهيمنة على الهندسة النباتية والمواد الجينية الحيوانية (الكائنات المعدلة وراثيًا- GMO)، والأهم من خلال شبكة من القوانين الدولية المتعلقة بحماية الملكية الفكرية والضغط على الدول من أجل توقيعها، وهو ما يجعل الفلاحين أسرى لتلك الشركات.

أما العواقب الصحية لهذا المشروع فتشمل ارتفاع مستويات الكيماويات السُمّية في الأغذية المزروعة والمجهزة صناعيًا، مع تنامي التعامل بالمركبات الكيميائية في الزراعة، فضلًا عن العجز التغذوي (أو نقص القيمة الغذائية) المرتبط بالوجبات السريعة والأطعمة المُعالجة صناعيًا، وتزايد السمنة والأمراض المرتبطة بها، بالتزامن مع انتشار سوء التغذية.

وبجوار العواقب الصحية والإفقار الدامي للفلاحين وصغار المزارعين بسبب تغلغل تلك الشركات العملاقة في الأسواق الدولية، تصطف مجموعة من الآثار البيئية تتمثل في مستويات استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية الناجمة عنها، وتلك المشكلات تطرح أسئلة حولة استدامة هذا النوع من الأنظمة الغذائية العالمية التي تسيطر عليه الشركات الباحثة عن الربح بغض النظر عن أي اعتبار آخر. 

وهذا هو الوجه المظلم لتطور الزراعة الحديثة الذي يجعل من طرح «السيادة الغذائية» بديلًا ممكنًا وفعّالًا لمواجهة تحكُم الشركات الكبرى في الإنتاج الغذائي، مع إعطاء الأولوية لتمكين الزراعة التي يقودها الفلاحون لإنتاج الغذاء على أساس الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية قبل أن يصبح كوكبنا غير قابل للحياة.

محمد جبريل – مصر

المقال أعلاه هو مراجعة نشرها موقع مدى مصر لكتاب "الطبقة والتغير الفلاحي" للمفكر هنري برنستين. المصدر الأصلي للمقال على: الرابط

1-   :Harriet Friedmann and Philip Mcmichael  Agriculture and the State System: The Rise and Decline of National Agriculture

2-  سمير أمين التطور اللامتكافئ: دراسة في التشكيلات الاجتماعية للرأسمالية المحيطية- 1974.

3-  محمد حاكم، أيام محمد علي: التمايز الاجتماعي وتوزيع فرص الحياة – 2017.

4-  الاقتصاد المصري في القرن العشرين- مؤلف جماعي من تحرير وائل جمال 2016.

5-  محمد رمضان وصقر النور، عيش مرحرح: الاقتصاد السياسي للسيادة الغذائية في مصر 2021. 

محمد جبريلAuthor posts

كاتب وباحث من مصر.