النضالات في ألمانيا من أجل الحق في إعادة إنتاج البذور



يتعرض حقنا العريق في إعادة زراعة البذور من محاصيلنا للتهديد، في وقتٍ تتزايد الهجمات على المزارعين والمزارعات الأوروبيين. ليس هذا الوضع هامشيًا، وهو غير خاص بأوروبا وحدها. تؤثر تطورات مماثلة على المزارعين/ات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في أمريكا اللاتينية وأفريقيا.

خلال نهاية التسعينيات، باشرت جمعية المنتجين الألمان، التي تمثل صناعة البذور، إرسال استبيانات إلى آلاف المزارعين/ات الألمان. كانوا يهدفون إلى معرفة ما كانوا يزرعونه في حقولهم والأصناف المستخدمة وكمية البذور المشتراة. يرتبط هذا “الفضول” بحقيقة أنه بموجب قوانين حماية الأصناف النباتية، يتوجب على المزارعين/ات الألمان أداء عائدات أو رسوم للمالكين إذا قاموا بحفظ وإعادة استخدام البذور التي اشتروها من شركات البذور.

تريد الشركات معرفة ما يزرعه المزارعون/ات، من أجل الاستمرار في فرض رسوم عليهم إذا ما أعادوا استخدام البذور. في ألمانيا، تُطبق الرسوم على المزارعين/ات الذين يزرعون محاصيل مثل الحبوب والبقوليات والبطاطس. لكن تأمل الشركات أيضًا في توسيع النطاق ليشمل محاصيل أخرى وتقييد أنواع أصناف البذور المُرخصة للمزارعين بإعادة استخدامها. في فرنسا، يتعين على المزارعين أيضًا دفع مقابل عند بيع محاصيل القمح الطري، ومنذ العام 2011 قُدمت مقترحات قانونية لتوسيع نطاق هذا الأسلوب ليشمل جميع المحاصيل في البلاد.

في العام 1998، أنشأ بعض المزارعين/ات من مجموعة العمل الألمانية المعنية بالزراعة الفلاحية (Arbeitsgemeinschaft bäuerliche Landwirtschaft، أو AbL) وهي منظمة لمقاومة هذه الضرائب أو الرسوم. منظمة AbL هي عضو في حركة لا فيا كامبيسينا (La Via Campesina)، وتمثل حوالي 1700 استغلالية صغيرة ومتوسطة الحجم في ألمانيا، تناضل ضد اعتماد الزراعة على الصناعة. بدأت المنظمة الجديدة المناهضة لأداء الضرائب برفض توفير معلومات حول ما يزرعه المزارعون في أراضيهم والبذور المستخدمة. وقد أُخذوا إلى المحكمة بسبب ذلك. في البداية، خسروا عدة قضايا في المحاكم الإدارية. ثم، بعد أكثر من عقد من النضال، وفي العام 2001، عُرضت قضيتهم على المحكمة العليا الألمانية، وفي العام 2003، أمام محكمة العدل الأوروبية. يوضح جورج يانسن Georg Janssen من منظمة AbL: “جرت متابعتنا من طرف أصحاب المشاتل أكثر من 1000 مرة، لكن حكمت المحكمة العليا أخيرًا لصالحنا فيما يخص النقاط الأساسية”، ويضيف: “لم نعد الآن ملزمين بتقديم معلومات عامة حول ما نزرعه، ما عدا حين نستخدم بذورًا محددة لشركة ما”. أيضا، لا يملك مقدمو خدمات تنظيف وتجفيف البذور حق كشف هذه المعلومات للشركات، كما جرى خفض رسوم الأداء.

تضم المنظمة المحدثة للنضال من أجل حق المزارعين في حفظ البذور أكثر من 1000 عضو الآن. يرفض 40,000 مزارع في جميع أنحاء ألمانيا الآن تقديم المعلومات إلى شركات البذور. تواصل منظمة AbL نشاطها مع الجمهور وإبقاء المزارعين/ات على اطلاع على الموضوع. تريد المنظمة نشر رسالة مفادها أن إعادة إنتاج البذور هو مسؤولية على عاتق المجتمع ككل، وليس الصناعة: إن نوع البذور التي نمتلك يحدد كيفية زراعتنا ونوع الطعام الذي نأكل. لكنها معركة شاقة. تمارس شركات البذور الألمانية والأوروبية نفوذ كبير للتأثير على سياسات تنظيم البذور في الاتحاد الأوروبي.

جرى الترويج مؤخرا لقوانين جديدة على المستوى الأوروبي. ستُقيد هذه القوانين أكثر من قدرة المزارعين على استخدام بذورهم وتبادلها. تفرض هذه القوانين، مثلا، الاحتفاظ بسجل لكل بذرة تدخل المزرعة وتخرج منها، لمنع تبادل البذور بين المزارعين. هكذا، سيضطر المزارعون إلى شراء بذور معتمدة من أجل تجنب الملاحقة وإجبارهم على أداء تكلفة استخدام بذور جيرانهم “غير القانونية”. وسيرغمون على عدم إعادة استخدامها تحت ضغط أداء المزيد من الضرائب أو الرسوم. أخيرا، سيكون حفظ البذور أكثر تكلفة وخطورة من شراء البذور التجارية!

عملت منظمة AbL كثيرا لتشجيع إجراءات التحسيس بهذا الوضع، لأنه يؤثر على بلدان أخرى. وخلال اجتماعات منظمة لا فيا كامبيسينا La Via Campesina، جرت مناقشة هذا الوضع. يوضح جورج يانسن: “خلال المناقشات، اتفقنا على أهمية التجارب المعاشة في ألمانيا للبلدان الأخرى في أوروبا”.

لكن المشكلة تتجاوز أوروبا. بشكل عام، إنها تتعلق بلوائح حماية الأصناف النباتية التي تؤثر على العديد من البلدان الأخرى، بوجه خاص أحدث نسخة من الاتحاد من أجل حماية الأصناف النباتية، المعروفة بـ 91 l’UPOV  (انظر الإطار أسفله). في أمريكا اللاتينية، تُفرض 91 l’UPOV  بقوة في العديد من البلدان. في بعض الأحيان يكون ذلك نتيجة لتشريعات محددة، ولكنها تُطبق أيضًا دون علم الجمهور، من خلال مراسيم أو قرارات أو أنظمة إدارية.

مثلا، أُرغم مزارعو الفواكه في الشيلي على الاختيار بين أداء الضرائب في كل موسم، ورؤية أشجارهم مقتلعة إذا رفضوا الدفع. عانى المزارعون الكولومبيون من مصادرات واسعة النطاق لبذورهم ومحاصيلهم من الأرز، ويواجهون المصير نفسه إذا ما تشابهت بذورهم أو محاصيلهم مع أحد الأصناف المخصخصة! في أمريكا اللاتينية، انتشر الآن ضمن خدمات الإرشاد الزراعي العام أو خدمات الإقراض الزراعي العامة طلب ما يثبت شراء بذور معتمدة في كل موسم، أو ما يثبت دفع الضرائب المناسبة. في أفريقيا، حيث تشكل بذور المزارع 90 % من البذور المستخدمة، هناك أيضًا ضغط قوي لتطبيق نظم مماثلة لحماية الأصناف النباتية استنادًا إلى l’UPOV 91. إذا ما تحولت هذه النظم إلى قوانين، فإنها ستحدث أضرار مماثلة لتلك التي وقعت في أمريكا اللاتينية.

هذا الوضع الخطير للغاية الذي يضر بالمزارعين والمزارعات في جميع أنحاء العالم يجب أن يتوقف. يمتلك المزارعون الحق الأساسي في اختيار البذور التي يرغبون في استعمالها. إنها تُشكل ممارسة قديمة، وهي أصل تنوع المحاصيل الموجودة اليوم. لا يجب على المزارعين التخلي عن استقلاليتهم أو عن بذورهم كأساس للسيادة الغذائية، المُعرضة لخطر جعل صناعة البذور أكثر ربحية. إن نضال المزارعين الألمان مهم بالنسبة للمزارعين في جميع أنحاء العالم، لأن القوانين المقيدة الموضوعة في أوروبا تُفرض بعد ذلك على المزارعين في أجزاء أخرى من العالم. بهذا المعنى، فإن حركة لا فيا كامبيسينا هي قوة في حد ذاتها، توحد الجهود وتدعو إلى التضامن في الكفاح من أجل سيادة على البذور في جميع أنحاء العالم.

بلد تلو الآخر، تقوم الشركات متعددة الجنسيات بتمرير "قوانين مونسانتو" أو "قوانين 91 UPOV  "، التي سميت على اسم اتفاقية UPOV  لعام 1991. تهدف هذه القوانين إلى فرض نفس الوصفات القانونية في كل مكان:

- حظر براءات الاختراع: 1) بذور المزارع؛ 2) البذور الزراعية الملوثة بالجينات المسجلة ببراءات اختراع من الحقول المجاورة أو المساعدة الغذائية؛ 3) البذور الزراعية التي سجلت الشركات متعددة الجنسيات براءات اختراعها مؤخرًا. تتكاثر براءات الاختراع هذه بسرعة في كل مكان.

- تمثل شهادة الأصناف النباتية (COV) أيضًا وسيلة لإعلان ملكية البذور. إنها تحمي الصنف الموحد من البذور الصناعية. بينما تشكل بذور آلاف الأجيال من المزارعين المنتجة، المورد الوراثي الأول المستخدم مجاناً في جميع الاختيارات الصناعية، فإن شهادة الأصناف النباتية تصنفها على أنها "مزيفة": وتصبح هكذا، محظورة أو خاضعة لأداء الضرائب لصالح الصناعة. لا تُعتبر COV بديلاً لبراءة الاختراع، بل رفيقاً أميناً لها. فالنباتات التي تحتويها الأصناف الجديدة المصادرة من قبل COV تصادرها براءة الاختراع مرة ثانية.

- تمنع شهادات البذور ودليل الأصناف تسويق وتبادل بذور زراعية لأنها غير موحدة.

- تُنظم المعايير الصحية ومعايير السلامة البيولوجية التلاعب الصناعي على نطاق واسع عبر السماح للشركات متعددة الجنسيات بضوابط ذاتية. رغم ذلك، فإن البيروقراطية والتحليلات التي تفرضها هذه الضوابط الذاتية لا يمكن تحملها على الإطلاق بالنسبة للكميات الصغيرة من البذور التي ينتجها صغار المزارعين وشركات البذور الصغيرة. نتيجة لذلك، يتم منعهم مرة أخرى من تسويق وتبادل بذورهم. تقوم هذه المعايير أيضًا على التسجيل الإلكتروني لجميع المزارعين الذين ينتجون بذورهم. يمكن للحكومات بعد ذلك تزويد الشركات بقائمة بأسماء هؤلاء المزارعين، حتى تتمكن من متابعتهم بتهمة "التزوير".

مجموعة العمل الألمانية المعنية بالزراعة الفلاحية Arbeitsgemeinschaft bäuerliche Landwirtschaft، ألمانيا

ترجمة: وحيد عسري

المقال أعلاه مأخوذ من كتاب: “لافيا كامبيسينا: بذورنا، مستقبلنا“.

وحيد عسريAuthor posts

باحث ومترجم من المغرب.