مقاومة الزراعة الإندونيسية من أجل سيادة البذور



أرغمت الثورة الخضراء الفلاحين في إندونيسيا على الانخراط في الزراعة الصناعية. أدت أيضا، منذ أواخر السبعينيات، إلى إدخال واستخدام مكثف للبذور الهجينة في جميع أنحاء البلاد. مع ما يُطلق عليه بالتقنيات الحديثة، قامت شركات البذور بتحويل وخوصصة البذور الزراعية. حلت البذور الهجينة محل آلاف الأصناف، مما نتج عنه فقدان تنوع البذور في الحقول الإندونيسية. تسيطر اليوم، في إندونيسيا، شركات البذور متعددة الجنسيات على أكثر من 90 % من توزيع البذور. منذ العام 1970، اختفى أكثر من 10.000 صنف محلي من الأرز، واعتمد المزارعون أكثر فأكثر على البذور الهجينة الصناعية. كما فقدوا أيضًا معارفهم التقليدية عن البذور.

رغم ارتفاع الطلب الكبير على البذور من قبل المزارعين والمزارعات، فالحكومة الإندونيسية لا تقدم لهم الدعم حين يقررون إعادة إنتاج وتطوير بذورهم. بل على العكس، تنزع إلى تقييد استخدام البذور الزراعية، استنادا على مختلف أنظمة الملكية الفكرية التي في صالح شركات البذور. تشمل هذه الشركات، شركة PT BISI، وهي شركة تابعة لشركة تايلاندية متعددة الجنسيات Charoen Pokhand، بالإضافة إلى فروع أو شركات تابعة إندونيسية لـ DuPont/Pioneer و Syngenta و Bayer و Monsanto. لا تُنتج هذه الشركات متعددة الجنسيات وتتحكم في توزيع البذور فقط، بل تهدد أيضًا السكان المزارعون الذين يحاولون بناء سيادة البذور. مثلاً، تجرّم عدة قوانين المزارعين الذين يعيدون إنتاج بذورهم الخاصة. يقضي قانون عام 1992 على أنه لا يحق للمزارعين استخدام وتوزيع سوى البذور المعتمدة  فقط. من جهة أولى، لا يمكن للمزارعين احترام معايير التجانس مع أصنافهم الخاصة لأن البذور الزراعية دائما تتكيف مع البيئة المحلية وليست متجانسة أبدًا. من جهة أخرى، حين يستخدم المزارعون بذور المزرعة، فإنهم يُتهمون بخرق ملكية شركات البذور الفكرية، ويتعرضون للملاحقة.

 سُجن في العام 2007 تسعة مزارعين لاستخدامهم بذور المزرعة، وفي العام 2009، اعتُقل ثلاثة آخرون في مقاطعة Java الشرقية. اتهمتهم شركة PT BISI بانتهاك قانون أنظمة زراعة النباتات (قانون نظام الزراعة). اتهمت الشركة المزارعين باستخدام طريقة تحسين مشمولة ببراءة اختراع، وحكمت عليهم محكمة مقاطعة كيديري Keidiri بالسجن لمدة ثلاثة أشهر. ناضلت النقابة الزراعية الإندونيسية (Serikat Petani Indonesia  أو SPI) بمساعدة منظمات زراعية أخرى ونشطاء حقوق الإنسان كما ينبغي من أجل الحصول على إطلاق سراح المزارعين. وقد بدأت عملية من أجل أن تلغي المحكمة الدستورية القانون الخاص بالبذور، لأنه يتعارض مع مصالح المزارعين والمزارعات. لأجل حماية البذور الزراعية، جرى تنظيم حملات أخرى؛ كانت إحداها من أجل النضال ضد إدخال المواد المعدلة وراثيًا في العام 2001، حين حاولت شركة مونسانتو Monsanto إدخال بذور القطن المُحسنة جينيا في سولاويسي Sulawesi. حشدت هذه الحملة وتحركات جماهيرية نقابات المزارعين ومنظمات أخرى. حققت الحملة نجاحا وتوقفت تراخيص واستخدام بذور القطن المعدلة وراثيًا نهائيا.

تغير العالم بعد عقود قليلة من إدخال البذور الهجينة. أصبح تدهور البيئة وتغير المناخ تهديدات فعلية، بوجه خاص بالنسبة للسكان الفلاحين الذين تعتمد سبل عيشهم على نظمهم الإيكولوجية. وتأثر المزارعون والمزارعات بذلك. تُصاب المحاصيل بالجفاف خلال موجات الحرارة، وتتناقص إمدادات المياه إلى الحقول، وتستمر مواسم الأمطار لفترة أطول   وتدمر الفيضانات المحاصيل التي كادت أن تنضج وتتفاقم الأضرار الناتجة عن الآفات. يُرغم هذا الوضع المزارعين على التكيف. فمثلاً، يتوجب عليهم إعادة جدولة موسم الزراعة وإيجاد بذور أكثر مقاومة للحرارة وتحتاج لكميات أقل من المياه. في العديد من الأماكن، يحتاج المزارعون والمزارعات إلى أصناف جديدة من البذور، ذات دورات حياة أقصر، حتى تتكيف مع المواسم وتجنب المحاصيل السيئة. لهذا من المهم للغاية أن تحصل الأسر الزراعية على بذورها الخاصة. لا تستطيع البذور الصناعية أن تتكيف مع بيئة متغيرة، لأنها مصنوعة للعمل في ظروف موحدة. بالمقابل، تتغير أصناف المزارعين ويمكنها التكيف مع تغير المناخ. ولهذا السبب المهم فإن عددًا متزايدًا من المزارعين بدأوا برفض البذور الصناعية. تزرع وارسيا Warsiah، وهي مزارعة تبلغ من العمر 53 عاما، الأرز في مقاطعة جاوة الغربية. تُفضل استخدام صنف محلي من أجل التكيف مع تغير المناخ، لأنه، في رأيها، لا يمكن الاعتماد على بذور الأرز الصناعية التي لا تتحمل الحرارة. لقد تعلمت أن تحفظ وتختار البذور المحلية الأكثر مقاومة للحرارة والمحتاجة لكمية أقل من المياه. إنها ليست ضد مشاركة بذورها مع جيرانها المزارعين، رغم مخاطر تعرضها للاعتقال بسبب توزيع بذور غير معتمدة. تخلت وارسيا Warsiah ومزارعون آخرون في منطقة إندرامايو Indramayu، في مقاطعة جاوة الغربية، عن البذور الهجينة لشركات البذور منذ سنوات.

الآن، إنهم مصممون على أن يصبحوا مزارعين مستقلين منتجين لبذورهم الخاصة. رغم ذلك، هناك عدد قليل من المزارعات مثل وارسيا Warsiah في إندونيسيا. يشكل الاعتماد على البذور الصناعية نتيجة لبرامج الثورة الخضراء وسياسات الحكومة خلال السنوات الثلاثين الماضية. لكن شيئًا فشيئًا، يتزايد عدد المزارعين والمزارعات الذين يستعيدون بذورهم. يشجعهم نجاح المزارعين في استخدام الأصناف المحلية، بوجه الجفاف والآفات وتحديات أخرى.

 تمتد جهود المزارعين من أجل إعادة إنتاج بذورهم الخاصة إلى مناطق أخرى في إندونيسيا. لكنهم يدركون فقدان الكثير من الدراية اللازمة لإعادة إنتاج البذور وهذا يشكل تحديًا خطيرًا بالنسبة لهم. عليهم أن يتذكروا ويعيدوا اكتشاف معرفتهم بانتقاء البذور. لهذا من المهم إنشاء مراكز تكوين لفائدة المزارعين من أجل تبادل معارفهم والتعلم من بعضهم البعض وتحسين مهاراتهم.

في عام 2009، أنشأت مبادرة البذور الخاصة المركز الوطني للبذور في بوغور Bogor، في إقليم جاوة الغربية الذي بدأ الاشتغال في العام 2010. يقدم المركز الوطني للبذور تكوينات للمزارعين حول كيفية اختيار بذورهم. ويقوم بجمع المعارف المحلية المُتعلقة بالموضوع من مختلف مناطق إندونيسيا ويُنظم تبادل الخبرات بين المزارعين بالإضافة إلى دورات تكوينية يديرها خبراء جامعيون في مجال البذور.

رغم التحديات التي يواجهها المزارعون، رجالاً ونساءً، لا يزال البلد يحظى بتنوع كبير ويحتفظ بالكثير من الأراضي الصالحة للزراعة. ويمكن إعادة تجربة المركز الوطني للبذور في أقاليم أخرى. لأجل ذلك، تتخذ مبادرة البذور الخاصة الخطوات التالية:

  •  زيادة الحفاظ على أصناف البذور
  • تجهيز مخازن بذور جماعية
  •  إنشاء تعاونية لتوزيع البذور
  •  تشجيع انخراط السكان المحليين في مخازن البذور من أجل جمع البذور واختيارها وتبادلها.

في العام 2012، قام أعضاء مبادرة البذور المجتمعية في منطقة كيديري Keidiri في مقاطعة جاوة الغربية، ببناء مشتل زراعي كمركز تكوين لأعضاء مبادرة SPI، حيث يمكن للمزارعين الآخرين في نفس المنطقة تعلّم كيفية اختيار البذور. وهو عبارة عن مشتل بسيط تبلغ مساحته 8 في 20 متر، شُيّد بمواد وفرها الأعضاء مجاناً. ووفقًا لكوسواري Kuswari، منسق المشتل، فإن المشتل على الرغم من صلابته، إلا أنه يُستعمل كمرفق لزراعة مختلف البذور المحلية. أُنتجت بذور الذرة والأرز والبابايا والفلفل الحار والباذنجان والفاصوليا الخضراء في هذا المشتل. لا تزال نباتات أخرى في طور التجربة، مثل بعض الأصناف المحلية من التفاح ماراكوياfruit de la passion .  قرر المزارعون بشكل جماعي بناء سيادة بذور حقيقية وهم عازمون على تنفيذها. يجري توزيع البذور التي ينتجها اتحاد المزارعين الإندونيسيين في كيديري للمزارعين في 5 مقاطعات فرعية: باداس  Badas وكاندانغان Kandangan وبيليماهان Pelemahan وبانياكان Banyakan وبلوسوكلاتن Plosoklaten. إضافة إلى توزيع البذور، يقدم الاتحاد في كيديري النصائح من مزارع إلى مزارع في حالة وجود مشاكل، من الزراعة إلى الحصاد. ينظم نورهادي زيني Nurhadi Zaini، رئيس فريق اتحاد المزارعين الإندونيسيين في منطقة كيديري، وهو أيضاً منتقٍ للبذور، بانتظام دورات تكوينية حول اختيار البذور ومعالجة التربة والزراعة. ليس إرساء سيادة البذور بالمهمة السهلة للسكان المزارعين المعرضين للتجريم من قبل الحكومة والشركات. إنها مشكلة كبيرة نظرا إلى تطور البذور المعدلة وراثيًا الحاصلة على براءات اختراع. إلا أننا ندرك أننا لن نتمكن في المستقبل من مواجهة تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي إلا إذا قمنا بحماية الأصناف المحلية ومعارف المزارعين. لهذا يحتج المزارعون الإندونيسيون على اعتمادهم المتزايد على صناعة البذور وسيواصلون الكفاح من أجل سيادة البذور.

حركة الشباب من أجل الغذاء، إندونيسيا.

المقال أعلاه مأخوذ من كتاب: “لافيا كامبيسينا: بذورنا، مستقبلنا“.